الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي
.[مسألة: الإشهاد على الحجر] وإذا حجر الحاكم عليه.. فالمستحب: أن يشهد على الحجر، ويأمر مناديا فينادي في البلد: ألا إن الحاكم قد حجر على فلان بن فلان؛ لأنه إذا لم يفعل ذلك.. اغتر الناس به، فيعاملونه، فيؤدي إلى الإضرار بهم، فإذا عاملوه بعد علمهم بالحجر.. فقد دخلوا على بصيرة، ولأن هذا الحاكم ربما مات أو عزل، فولي غيره، فإذا أشهد الأول على الحجر.. أمضاه الثاني، ولا يحتاج إلى ابتداء حجر عليه..[فرع: الحجر للإفلاس يعلق الديون بماله] وإذا حجر الحاكم على المفلس.. تعلقت ديون الغرماء بماله، ومنع من التصرف بماله.وقال أبو حنيفة: (لا تتعلق الديون بماله، ولا يمنع من التصرف بماله، بل يحبسه الحاكم حتى يقضي ما عليه من الدين). دليلنا: ما روي: «أن معاذ بن جبل ركبته الديون على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غرماؤه، فلم يزد على أن خلع ماله لهم» وأقل ما يقتضي الخلع: أنه منعه من التصرف بماله. وروى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن رجلا أصيب بثمار ابتاعها، فلم يف ماله بدينه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذوا ماله، ليس لكم إلا ذلك» وفي إذنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم بأخذ ماله.. منع من التصرف فيه. وإذا تصرف المفلس بعد الحجر.. نظرت: فإن تصرف في ذمته، بأن اقترض، أو اشترى شيئا بثمن في ذمته، أو أسلم إليه في شيء.. صح ذلك؛ لأن الحجر عليه في أعيان ماله، فأما ذمته.. فلا حجر عليه بها لأنه لا ضرر على الغرماء فيما يثبت عليه بذمته.. ومن باعه شيئا أو أقرضه بعد الحجر.. لم يشارك الغرماء بماله؛ لأنه إن علم بالحجر.. فقد دخل على بصيرة. وإن لم يعلم به.. فقد فرط في ترك السؤال عنه، وهل تقسم الأعيان التي اشتراها بثمن في ذمته بعد الحجر بين الغرماء الأولين، أو يكون بائعوها أحق بها؟ فيه وجهان، يأتي ذكرهما في موضعهما. وإن تصرف المفلس بشيء من أعيان ماله بأن باع، أو وهب، أو أقرض، أو أعتق.. فهل يصح تصرفه بها؟ فيه قولان: أحدهما: أن تصرفه موقوف، فإن كان فيما بقي من ماله وفاء بدينه.. نفذ تصرفه، وإن لم يكن فيه وفاء بدينه.. لم ينفذ تصرفه، وهو أضعف القولين؛ لأن من صح ابتياعه في ذمته.. صح بيعه لأعيان ماله، كغير المفلس؛ ولأنه حجر عليه لحق الغير، فكان تصرفه صحيحا موقوفا، كالحجر على المريض، وفيه احتراز من تصرف المحجور عليه للسفه. والقول الثاني: أن تصرفه باطل، وهو قول ابن أبي ليلي، والثوري، ومالك رحمة الله عليهم، واختيار المزني، وهو الصحيح؛ لأنه حجر ثبت بالحاكم، فلم يصح تصرفه فيه، كالسفيه، ولأن كل ما تعلق بماله حق الغير.. وجب أن يكون ممنوعا من التصرف فيه، كالرهن لا يصح تصرف الراهن به. فإذا قلنا: إن تصرفه باطل في أعيان ماله.. رد جميع ما باع أو وهب أو أعتق، وقسم ماله بين الغرماء، فإن وفي ماله بدينه، بأن زادت قيمته، أو أبرئ من بعض دينه، وفضل ما كان تصرف فيه عن الدين.. لم يحكم بصحة تصرفه الأول؛ لأنه وقع باطلا. فعلى هذا القول: إن باع عينا من أعيان ماله من غريمه بدينه الذي له عليه.. فهل يصح؟ فيه وجهان، حكاهما في "العدة": أحدهما قال صاحب " التلخيص ": يصح؛ لأن الحجر عليه للدين، فبيعه بذلك الدين يوجب سقوطه. والثاني: لا يصح، وهو قول الشيخ أبي زيد؛ لأن الحجر على المفلس ليس مقصورا على هذا الغريم؛ لأنه ربما ظهر له غريم آخر. وإن قلنا: إن تصرفه صحيح موقوف.. قسم ماله بين غرمائه، فإن وفى ماله بدينه غير الذي تصرف فيه.. نفذ تصرفه. وإن لم يف ماله إلا بنقض جميع ما تصرف فيه.. نقض جميع ما تصرف فيه. وإن لم يف ماله بدينه، إلا ببعض الأعيان التي تصرف فيها.. نقض منها شيء بعد شيء. وما الذي ينقض أولا؟ فيه وجهان: أحدهما قال الشيخ أبو حامد، وعامة أصحابنا: ينقض الأضعف، فالأضعف وإن كان متقدما في التصرف. فعلي هذا: تنقض الهبة أولا؛ لأنها أضعف؛ لأنه لا عوض فيها، ثم البيع بعدها؛ لأنه يلحقه الفسخ. قال ابن الصباغ: ثم العتق، ثم الوقف. والذي يقتضي القياس عندي على هذا: أن الوقف ينقض أولا قبل العتق؛ لأن العتق من الوقف، بدليل: أنه يسري إلى ملك الغير، والوقف لا يسري إلى ملك الغير. والوجه الثاني: وهو قول صاحب "المهذب": أنه ينقض من تصرفه الآخر، فالآخر، عتقا كان أو غيره، كما قلنا في تبرعات المريض المنجزة إذا عجز عنها الثلث.. فإنه ينقض الآخر فالآخر. .[مسألة: إفلاس أحد المتبايعين بالخيار] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو تبايعا بالخيار ثلاثا، ففلسا أو أحدهما.. فلكل واحد منهما إجازة البيع، ورده دون الغرماء؛ لأنه ليس بمستحدث). وهذا كما قال: إذا تبايع رجلان، وبينهما خيار الثلاث، أو خيار المجلس، ثم حجر عليهما، أو على أحدهما بالإفلاس قبل انقضاء الخيار.ومعنى قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ففلسا) أي: حجر عليهما، وحكم عليهما بالإفلاس. وقد اختلف أصحابنا في هذه المسألة على طرق: فمنهم من حملها على ظاهرها، وقال: لكل واحد منهما أن يفسخ البيع، وله أن يجيز، سواء كان الحظ فيما فعله من ذلك، أو في غيره؛ لأن الحجر إنما يمنع تصرفه في المستقبل لا فيما مضى، ولأن المفلس لا يجبر على الاكتساب، فلو قلنا: يلزمه أن يفعل ما فيه الحظ.. لألزمناه الاكتساب. وقال أبو إسحاق: إن كان الحظ في الفسخ.. لزمه أن يفسخ، وإن أجاز.. لم تصح إجازته، وإن كان الحظ في الإجازة.. لزمه أن يجيز، وإن فسخ.. لم يصح الفسخ؛ لأن الحجر يقتضي طلب الحظ، فلم يفعل إلا ما فيه الحظ، كما لو باع بشرط الخيار، ثم جن، فإن الولي لا يفعل إلا ما فيه الحظ. وتأول كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على هذا. ومنهم من قال: يبنى ذلك على وقت انتقال الملك إلى المشتري، وتصورها في البائع إذا باع بشرط الخيار، وأفلس البائع، فإن قلنا: إن الملك انتقل إلى المشتري بنفس العقد.. فللبائع أن يجيز البيع وإن كان الحظ في الفسخ، وله أن يفسخ وإن كان الحظ في الإجازة. وإن قلنا: إن البيع لا ينتقل إلا بشرطين، أو قلنا: إنه موقوف.. فليس له أن يفعل إلا ما فيه الحظ على القولين. قال ابن الصباغ: والطريقة الأولى أسد عند أصحابنا؛ لأن التصرف من المحجور عليه لا تنفذ، سواء كان فيه الحظ، أو لم يكن. وذكر الشيخ أبو حامد في "التعليق" طريقة رابعة، وقال: الصحيح عندي: أنه لا يملك فسخ العقد، ولا إجازته بعد الحجر عليه بكل حال؛ لأن عندنا ينقطع تصرفه بالحجر عليه، بدلالة أنه إذا باع شيئا، ثم حجر عليه قبل قبض الثمن.. لم يكن له قبضه، اللهم إلا أن يكون الإمام أمر من يقوم بأمره، وينظر في مصالحه، فرأى الحظ له في الفسخ، فإنه يفعل. .[مسألة: هبة المحجور عليه بثواب] وإن وهب لغيره قبل الحجر هبة تقتضي الثواب، ثم حجر على الواهب، وقلنا: إن الثواب مقدر بما يرضى به الواهب.. فله أن يرضى بالقليل والكثير؛ لأنا لو ألزمناه طلب الفضل.. لألزمناه الاكتساب، وذلك لا يلزمه..[مسألة: تعلق الدين المقر به في ذمة المحجور عليه] وإذا أقر المحجور عليه بدين لزمه قبل الحجر، وصادقه المقر له، وكذبه الغرماء.. تعلق الدين بذمته، قولا واحدا، وهل يقبل إقراراه في حق الغرماء ليشاركهم المقر له؟ فيه قولان:أحدهما: أنه لا يقبل في حقهم، ولا يشاركهم؛ لأنه مال تعلق به حق الغير، فلم يقبل إقرار من عليه الحق في ذلك المال، كالراهن إذا أقر بدين لم يبطل به حق المرتهن، ولأنه لا يؤمن أن يواطئ المفلس من يقر له بالدين ليشارك الغرماء، ثم يسلمه إلى المفلس. والقول الثاني: أن إقراره مقبول في حق الغرماء، فيشاركهم المقر له، وهو الصحيح؛ لأنه حق يثبت بسبب منسوب إلى ما قبل الحجر، فوجب أن يشارك صاحب الحق بحقه الغرماء، كما لو ثبت حقه بالبينة، ولأن المريض لو أقر لرجل بدين لزمه في حال الصحة. لشارك من أقر له في حال المرض، فكذلك هذا المفلس لو أقر بدين قبل الحجر ليشارك الغرماء. وكذلك: إذا أقر بدين بعد الحجر، وإضافة إلى ما قبل الحجر، يكون كما لو أقر به قبل الحجر. وإن كان في يد المفلس عين، وقال: هذه العين عارية عندي لفلان، أو غصبتها منه، أو أودعنيها.. فهل يقبل إقراراه في حق الغرماء؟ على القولين: أحدهما: لا يقبل، فإن لم يف مال المفلس بدينه إلا ببيع تلك العين.. بيعت، وفرق ثمنها على الغرماء، وكان دينا على المفلس. والقول الثاني - وهو الصحيح -: أنه يقبل إقراره فيها على الغرماء، وتسلم العين إلى المقر له. قال الشيخ أبو حامد: وقد شنع الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على القول الأول، وقال: (من قال بهذا، أدى إلى أن القصار إذا أفلس، وعنده ثياب لقوم، فأقر أن هذا الثوب لفلان، وهذا لفلان.. فلا يقبل منه، وكذلك الصباغ والصائغ إذا أفلس، فأقر بمتاع لأقوام بأعيانهم.. أن لا يقبل، وهذا لا سبيل إليه، وكذلك لو قال: عندي عبد آبق، ولم يقبل قوله، فبيع العبد.. رجع بعهدته على المفلس، فيكون قد رجع عليه بعهدة عبد أقر أنه آبق، وباعه بهذا الشرط، وهذا لا سبيل إليه؛ لأنه إبطال لأصول الشرع، فلذلك قلنا: يقبل إقراره). .[فرع: جحود المفلس دينا في ذمته] وإن ادعى رجل على المفلس بدين في ذمته، أو عين في يده، فجحده، فإن أقام المدعي بينة.. شارك الغرماء بالدين، وأخذ العين، وإن لم يقم البينة.. فالقول قول المفلس مع يمينه، فإن حلف له.. انصرف المدعي، وإن نكل المفلس عن اليمين، فحلف المدعي.. فهل يشارك الغرماء في الدين، ويأخذ العين؟ فيه طريقان:أحدهما قال الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق: إن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة.. شارك الغرماء بالدين، وأخذ العين. وإن قلنا: إنه كالإقرار.. كان على القولين الأولين في إقرار المفلس. الثاني قال ابن الصباغ: يشارك الغرماء، قولا واحدا، كما لو ثبت ذلك بالبينة. .[مسألة: جناية المحجور عليه] وإن جنى المحجور عليه على غيره، أو أتلف عليه مالا.. شارك المجني عليه والمتلف عليه الغرماء؛ لأن ذلك ثبت بغير رضا من له الحق. وإن كان له عبد، فجنى على غيره.. قدم حق المجني عليه في رقبة العبد على سائر الغرماء؛ لأن حقه يختص بعين هذا العبد، فقدم على غيره، كما قلنا في الرهن.وإن جني على المفلس جناية خطأ.. تعلق حق الغرماء بالأرش؛ لأن الأرش مال له، فتعلق به حق الغرماء، كسائر أمواله. وإن جني عليه جناية عمد توجب القصاص.. فالمفلس بالخيار: بين أن يقتص، وبين أن يعفو، وليس للغرماء أن يطالبوه بالعفو على مال؛ لأن ذلك اكتساب للمال، وذلك لا يلزمه، ولأنا لو ألزمناه ذلك.. لصار ذلك ذريعة إلى الجناية عليه ثانيا وثالثا، فلم يلزمه. فإن عفا على مال.. تعلق به حق الغرماء، وإن عفا مطلقا فإن قلنا إن موجب العمد القود لا غير.. لم يجب المال، وإن قلنا: إن موجبه أحد الأمرين.. ثبت المال، وتعلق به حق الغرماء، وإن عفا على غير مال، فإن قلنا: إن موجب العمد القود لا غير.. صح عفوه ولم يجب المال، وإن قلنا: إن موجبه أحد الأمرين.. فذكر في "التعليق" و "الشامل": أن المال يثبت، وتتعلق به حقوق الغرماء، ولا يصح عفوه عنه. .[مسألة: ادعاء المفلس دينا] وإن ادعى المفلس على غيره بدين، أو عين، وأنكره المدعى عليه، فأقام المفلس شاهدا، فإن حلف معه.. استحق ما ادعاه، وقسم على الغرماء لأنه ملك له وإن لم يحلف فهل يحلف الغرماء.قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " المختصر ": (لا يحلف الغرماء). وقال: (إذا مات، وخلف ورثة وعليه دين، وله دين على آخر له به شاهد، ولم يحلف الورثة.. هل يحلف الغرماء؟ على قولين). فمن أصحابنا من قال: المسألتان على قولين. ومنهم من قال: لا يحلف غرماء المفلس، قولا واحدا، وفي غرماء الميت قولان، والفرق بينهما: أن المفلس يرجى أن يحلف، فلم يحلف غرماؤه، والميت لا يرجى أن يحلف، فحلف غرماؤه. والصحيح: أنهما على قولين: أحدهما: يحلفون؛ لأن حقوقهم تتعلق بما يثبت للمفلس، فكان لهم أن يحلفوا، كالورثة، ولأن الإنسان قد يحلف لإثبات المال لغيره، كما تقول في الوكيل إذا خالفه العاقد له.. فإن الوكيل يحلف، ويثبت المال للموكل، كذلك هذا مثله. والثاني: لا يحلفون، وهو الصحيح؛ لأنهم يثبتون بأيمانه ملكا لغيرهم، لتتعلق به حقوقهم بعد ثبوته، وهذا لا يجوز، كما لا تحلف الزوجة لإثبات مال لزوجها وإن كان إذا ثبت تعلقت به نفقتها، ولا يشبه الورثة؛ لأنهم يثبتون الملك لأنفسهم بأيمانهم، وأما الوكيل: فإنما حلف؛ لأن اليمين متعلقة بالعقد، فلما كان هو العاقد توجهت اليمين عليه. فإن ادعى المفلس على غيره بدين أو عين، ولا بينة له.. فالقول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف.. فلا كلام، وإن نكل المدعى عليه عن اليمين.. ردت على المفلس، فإن حلف.. ثبت له المال، وقسم على الغرماء، وإن لم يحلف المفلس.. فهل يحلف غرماؤه؟ قال ابن الصباغ: هي على قولين، كاليمين مع الشاهد، وإذا حلفوا.. فإن المال الثابت بأيمانهم يقسم بينهم على قدر ديونهم. .[فرع: الديون المؤجلة لا توجب الحجر] وإن كان على رجل ديون مؤجلة.. فليس لغرمائه أن يسألوا الحاكم أن يحجر عليه؛ لأجل ديونهم وإن كان ماله أقل من ديونهم؛ لأنهم لا حق لهم قبل محل الأجل. وإن كان عليه ديون حاله وديون مؤجله، فرفع أصحاب الديون الحالة أمره إلى الحاكم، فنظر إلى ما عليه من الديون الحالة وإلى ما معه من المال، فوجد ماله لا يفي بالديون الحالة، فحجر عليه لمسألتهم.. فهل تحل عليه الديون المؤجلة؟ فيه قولان:أحدهما: تحل، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن الديون تتعلق بالمال بالحجر، فأسقط الحجر الأجل، كالموت. والثاني: لا تحل، وهو اختيار المزني، وهو الأصح؛ لأنه دين مؤجل على حي، فلم يحل قبل أجله، كما لو لم يحجر عليه، ويفارق الميت؛ لأن ذمته خربت، وهذا له ذمة صحيحة. .[مسألة: نفقة المحجور عليه] وإذا حجر الحاكم على المفلس، ومنعه من التصرف في ماله.. فمن أين تكون نفقته إلى أن يبيع ماله ويقسمه على الغرماء؟ ينظر فيه: فإن كان له كسب.. كانت نفقته في كسبه. وإن لم يكن له كسب.. فإن على الحاكم أن يدفع إليه نفقته من ماله؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للرجل الذي جاءه بالدينار: أبدأ بنفسك، ثم بمن تعول»فأمره أن يبدأ بنفسه على من يعول، ومعلوم أن فيمن يعول من تجب نفقته، وتكون دينا عليه، وهي الزوجة، فعلم أن نفقته مقدمة على الدين، ويكون طعامه على ما جرت به عادته، ويدفع إليه نفقة يوم بيوم، وآخرها اليوم الذي يقسم فيه الحاكم ماله، فيدفع إليه نفقة ذلك اليوم؛ لأن النفقة تجب في أوله، ويترك له ما يحتاج إليه من الكسوة؛ لأنه لا بد له أن يتصرف، فلو قلنا: إنه لا يكتسب.. لامتنع الناس من معاملته، ويترك له من الكسوة ما يكفيه على ما جرت به عادته. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يكفيه قميص وسراويل، ورداء إن كان ممن يتردى، وحذاء لرجله، هذا إذا كان في الصيف، وإن كان في الشتاء.. زيد على القميص جبة محشوة، وخف بدل النعل. وإن كان ممن عادته أن يتطيلس.. دفع إليه الطيلسان، وأما جنس ثيابه: فمعتبر بحاله، فإن كان ممن عادته لبس السرب والدبيقي.. ترك له ذلك. وإن كانت عادته أن يلبس من غليظ القطن أو الكتان.. لم يزد على ذلك، وإن كان ممن يلبس المتوسط من الثياب.. ترك له ذلك). قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإذا كان له ثياب غوال.. بيعت). قال أصحابنا: أراد: إذا كان من عوام الناس، وله ثياب غالية جرت العادة أن يلبسها ذوو الأقدار، ونبل التجار.. بيعت، ويشترى له ثياب جرت العادة أن يلبسها مثله في العادة، ويصرف الباقي من ثمنها إلى الغرماء. .[فرع: يترك للمحجور عليه نفقة عياله] وإن كان للمفلس من تلزمه نفقته، كالزوجة والوالدين والمولودين.. ترك لهم ما يحتاجون إليه من نفقة وكسوة، كما قلنا في المفلس؛ لأنهم يجرون مجرى نفسه؛ لأن الأقارب يعتقون عليه إذا ملكهم، كما يعتق نفسه إذا ملكها، ونفقة الزوجة آكد من نفقة الأقارب؛ لأنها تجب بحكم المعاوضة..[فرع: مؤنة تجهيز المحجور عليه] وإن مات المفلس.. كانت مؤنة تجهيزة وكفنه من ماله؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدمت إليه جنازة ليصلي عليها، فقال: (هل على صاحبكم من دين؟ "، فقالوا: نعم. فقال: صلوا على صاحبكم»ولا محالة أنه كان قد كفن، فعلم أن الكفن مقدم على حقوق الغرماء؛ لأنه لم يتعرض له. وإن مات له من تلزمه نفقته، فإن كانت له زوجة.. فهل يجب كفنها ومؤنة تجهيزها عليه، أو في مالها؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما في (الجنائز). وإن كان من الوالدين أو المولودين.. وجب مؤنة تجهيزه وكفنه على المفلس، ويقدم ذلك على الغرماء، كما قلنا في المفلس نفسه. وكم القدر الذي يجب في الكفن في حق المفلس وقرابته؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها الشيخ أبو حامد: أحدها: ثوب واحد. والثاني: ما جرت به العادة في الكفن، من ثوب أو ثوبين أو ثلاثة. والثالث قال أبو إسحاق: ما يستر العورة لا غير. .[فرع: يباع دار وخادم المحجور عليه] وإن كان للمفلس دار يسكنها، أو خادم يخدمه.. بيعا عليه، وصرف ثمنهما إلى غرمائه؛ لأنه يمكنه أن يكتري دارا يسكنها، وخادما يخدمه، وقد جرت العادة أن الناس يكترون الدور والخدم، بخلاف الثياب، فإن العادة لم تجر باكترائها، ولأن أكثر ما فيه إذا بيع داره أو خادمه، أنه بيع من ماله ما هو من تمام كفايته، وهذا لا يمتنع، ألا ترى أنه لو كان له عقار يأتيه منها كفايته.. فإنها تباع بالدين وإن كانت من تمام كفايته؟.[مسألة: حضور الخصمين عند إرادة الحاكم بيع مال المفلس] وإذا أراد الحاكم بيع مال المفلس أو الرهن.. فالمستحب: أن يحضر المفلس والراهن؛ لأنه أعرف بقيمة أمواله وأثمانها التي اشتراها بها، ولأنه إذا حضر.. احتاط أكثر مما يحتاط غيره، ويستحب أن يحضر الغرماء؛ لأنه ربما كان فيهم من يبتاع شيئا من مال المفلس، فيكثر المبتاعون، فيكون أوفر للثمن، ولأنه ربما وقع غبن في بيع شيء يسهو الحاكم عنه، فاستدركه. فإن باع الحاكم ماله بغير حضور المفلس والغرماء.. صح البيع؛ لأن المفلس لا تصرف له، والغرماء لا ملك لهم..[فرع: يطلب الدلال لعرض السلع] وإذا أراد الحاكم بيع مال المفلس.. فلا بد من دلال، وهو: من ينادي على المتاع فيمن يزيد. ويستحب أن يقول الحاكم للمفلس والغرماء: ارتضوا برجل ينادي على بيع المتاع؛ لأنهم أعرف بمن يصلح لذلك الأمر، ولأن في ذلك تطييبا لأنفسهم. فإن لم يستأذنهم الحاكم في ذلك، ونصب مناديا من قبله.. جاز؛ لأن المفلس قد انقطع تصرفه، والغرماء لا ملك لهم.قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يقبل إلا ثقة). وفي بعض نسخ المزني: (ولا يقبل إلا من ثقة). فمن نقل: (ولا يقبل إلا ثقة) فمعناه: إذا نصب المفلس والغرماء من ينادي على ثمن المتاع.. لم يقبله الحاكم إلا أن يكون ثقة. والفرق بين هذا وبين الرهن: إذا اتفق المتراهنان على وضع الرهن على يد من ليس بثقة.. لم يعترض الحاكم عليهما؛ لأن الحق في الرهن للمتراهنين لا يتعداهما، وهاهنا النظر للحاكم؛ لأنه ربما ظهر غريم آخر. وأما من نقل: (ولا يقبل إلا من ثقة) فمعناه: إذا نودي على مال المفلس فزاد في ثمنه إنسان، فإنه لا تقبل الزيادة إلا من ثقة؛ مخافة أن يزيد، فيتركها، فيفسدها، فإن تطوع الدلال بالنداء من غير أجره.. لم يستأجر الحاكم من ينادي؛ لأنه لا حاجة به إلى ذلك، فإن لم يوجد من يتطوع بذلك.. استؤجر بأقل ما يوجد، فإن كان في بيت المال فضل أعطي الأجير الأجرة منه؛ لأن في ذلك مصلحة، فهو كأجرة الكيال والوزان في الأسواق. وإن لم يكن في بيت المال فضل.. استؤجر من مال المفلس لذلك؛ لأن العمل له. قال أبو علي في "الإفصاح": وأما أجرة النقاد: فعلى الغريم، لا على المفلس، فإن اختار المفلس رجلا ينادي على المتاع، واختار الغرماء غيره.. نظر الحاكم فيهما: فإن كان أحدهما ثقة دون الآخر.. أقر الثقة منهما، وإن كانا ثقتين، فإن كان أحدهما متطوعا دون الآخر.. أقر المتطوع دون الآخر؛ لأنه أوفر عليهم، فإن كانا متطوعين.. ضم أحدهما إلى الآخر؛ لأن ذلك أحوط، وإن كانا غير متطوعين.. اختار أوثقهما وأعرفهما. |