الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)}.بيّن جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن ذلك العذاب الذي فعله بهؤلاء المعذبين المذكورين في قوله تعالى: {إِنَّا لَذَآئِقُونَ} [الصافات 31] أي العذاب الأليم، وقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ} [الصافات 33] أنه يفعل مثله من التعذيب والتنكيل بالمجرمينن والمجرمون جمع مجرم، وهو مرتكب الجريمة وهي الذنب الذي يستحقه صاحبه عليه التنكيل الشديد، ثم بيّن العلة لذلك التعذيب، لأنها هي امتناعهم من كلمة التوحيد التي هي لا إله إلا الله إذا طلب منهم الأنبياء وأتباعهم أن يقولوا ذلك في دار الدنيا. فلفظة {إن} في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كانوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات 35] من حروف التعليل، كما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه.وعليه فالمعنى: كذلك نفعل بالمجرمين لأجل أنهم كانوا في دار الدنيا {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ} اي يتكبرون عن قبولها ولا يرضون أن يكونوا أتباعًا للرسل.وهذا المعنى الذي دلّت عليه هذه الآية الكريمة من كون ذلك هو سبب تعذيبهم بالنار، دلت عليه آيات كقوله تعالى مبينًا دخولهم النار: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فالحكم للَّهِ العلي الكبير} [غافر: 12] وقوله تعالى في ذكر صفات الكفار وهم أهل النار: {وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45].{وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)}.قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الشعراء في الكلام على قوله تعالى: {والشعراء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} [الشعراء: 224].{لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)}.قد قدمنا تفسيره مع ذكر الآيات الدالة على معناه في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] وبينا هنا كلام أهل العلم في نجاسة عين خمر الدنيا دون خمر الآخرة وأن ذلك يشير إليه قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21].{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)}.ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ثلاث صفات من صفات نساء أهل الجنة.الأولى: أنهن قاصرات الطرف، وهو العين أي عيونهن قاصرات على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم لشدة اقتناعهن واكتفائهن بهم.الثانية: أنهن عين، والعين جمع عيناء، وهي واسعة دار العين، وهي النجلاء.الثالثة: أن ألوانهن بيض بياضًا مشربًا بصفرة، لأن ذلك هو لون بيض النعام الذي شبههن به، ومنه قول امرئ القيس في نحو ذلك:
لأن معنى قوله: كبكر المقانات البياض بصفرة، أنلون المرأة المذكورة كلون البيضة البكر المخالط بياضها بصفرة، وهذه الصفات: الثلاث المذكورة هنا، جاءت موضحة في غير هذا الموضع مع غيرها من صفاتهن الجميلة، فبين كونهن قاصرات الطرف على أزواجهن بقوله تعالى في ص: {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف أَتْرَابٌ} [ص: 52] وكون المرأة قاصرة الطرف من صفاتها الجميلة، وذلك معروف في كلام العرب، ومنه قول امرئ القيس: وذكر كونهن عينًا في قوله تعالى فيهن: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22]، وذكر صفاء ألوانهن وبياضها في قوله تعالى: {كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون} [الواقعة: 23]. وقوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان} [الرحمن: 58] وصفاتهن كثيرة معروفة في الآيات القرآنية.واعلم أن الله أثنى عليهن بنوعين من أنواع القصر:أحدهما: أنهن قاصرات الطرف، والطرف العين، وهو لا يجمع ولا يثنى لأن أصله مصدر، ولم يأت في القرآن إلا مفردًا كقوله تعالى: {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 43]. وقوله تعالى: {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45]: ومعنى كونهن قاصرات الطرف هو ما قدمنا من أنهن لا ينظرن إلى غير أزواجهن بخلاف نساء الدنيا.والثاني من نوعي القصر: كونهن مقصورات في خيامهن، لا يخرجن منها كما قال تعالى لأزواج نبيّه صلى الله عليه وسلم: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33]، وذلك في قوله تعالى: {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام} [الرحمن: 72]، وكون المرأة مقصورة في بيتها لا تخرج منه من صفاتها الجميلة، وذلك معروف معروف في كلام العرب ومنه قوله: فقوله: قصارهن يعني المقصورات منهن في بيوتهن اللاتي لا يخرجن إلا نادرًا، كما أوضح ذلك كثير عزة في قوله: والحجال: جمع حجلة وهي البيت الذي يزين للعروس، فمعنى قصيرات الحجال: المقصورات في حجالهن. وذكر بعضهم أن رجلًا سمع آخر، قال: لقد أجاد الأعشى في قوله: فقال له: قاتلك الله، تستحسن غير الحسن هذه الموصوفة خراجة ولاجة، والخراجة الولاجة لا خير فياه ولا ملاحة لها، فهل لا قال كما قال أبو قيس بن الأسلت: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)}.قد قدمنا إيضاحه بالقرآن في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى: {قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد التي وَعِدَ المتقون} [الفرقان: 15].{إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64)}.قد قدمنا إيضاحه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ والشجرة الملعونة فِي القرآن} [الإسراء: 60].{فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67)}.ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن الكفار في النار يأكلون من شجرة الزقوم، فيملؤون منها بطونهم، ويجمعون معها شوبًا من حميم. أي خلطًا من الماء البالغ غاية الحرارة، جاء موضحًا في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في الواقعة: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضآلون المكذبون لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحميم فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم} [الواقعة: 5155]، وقوله شرب الهيم، الهيم: جمع أهيم وهيماء وهي الناقة مثلًا التي أصابها الهيام، وهو شدة العطش بحيث لا يرويها كثرة شراب الماء فهي تشرب كثيرًا من الماء، ولا تزال مع ذلك في شدة العطش. ومنه قول غيلان ذي الرمة: وقوله تعالى في الواقعة: {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحميم فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم} [الواقعة: 5455] يدل على أن الشوب أي الخلط من الحميم المخلوط لهم بشجرة الزقوم المذكور هنا في الصافات، أنه شوب كثير من الحميم لا قليل.وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية: لشوبا من حميم. الشوب: الخلط، والشوب والشوب لغتان، كالفقر والفقر، والفتح أشهر. قال القراء شاب طعامه وشرابه إذا خلطهما بشيء يشوبهما شوبًا وشيابة انتهى منه.{فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)}.ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الكفار الذين أرسل إليهم نبينا صلى الله عليه وسلم، ألفوا آباءهم ضالين: أي وجدوهم على الكفر، وعبادة الأوثان، فهم على آثارهم يهوعون: أي يتبعونهم في ذلك الضلال والكفر، مسرعين فيه، جاء موضحًا في غير هذا الموضع كقوله تعالى عنهم: {قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} [البقرة: 170] وقوله عنهم: {قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} [المائدة: 104] وقوله عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَاءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]. وقوله عنهم: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا} [إبراهيم: 10] الآية، ورد الله عليهم في الآيات القرآنية معروف كقوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] وقوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104] وقوله تعالى: {قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 24].وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَهُمْ على آثَارِهِمْ} أي فهم على أتباعهم، والاقتداء بهم في الكفر والضلال، كما قال تعالى عنهم: {وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23].وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {يُهْرَعُون} قد قدمنا في سورة هود أن معنى {يُهْرَعُون} يسرعون ويهرولون، وأن منه قول مهلهل: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)}.وقد قدمنا الآيات التي بمعناه في سورة يس في الكلام على قوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ} [يس 7]. وفي سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله} [الأنعام: 116] الآية. اهـ.
|