الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} المستحقين للثناء الدائم المستمر ولذلك أجريناه عليه {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} كفار قومه وإنه وزوجته المذكورين إذ حل عليهم العذاب راجع تفصيل القصة في الآية 44 فما بعدها من سورة هود المارة {إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ} لأنه نهج نهجه وسار سيره وتبع دينه وشيعة الرجل أتباعه المقتفون أثره، قالوا وكان بينهما الفان وستمئة وأربعون سنة، ولم يكن بينهما نبي إلا هودا وصالحا، وأرى أن هذا وما قدمناه من نسل أولاد نوح لا يجوز القطع به ولا إنكاره، بل نكل فيه العلم إلى العليم الواحد إذ لا طائل تحته ولا يتعلق فيه حكم ولا حد فمثله كمثل بقية الأخبار والقصص والأمثال، إذ لا آية تنص على ذلك ولا حديثا صحيحا يستند إليه، لهذا فالأحسن في مثله أن لا يصدق بصورة قطعية ولا يكذب تكذيبا محضا، هذا ومن قال إن ضمير شيعته يعود إلى سيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم لا مستند له وليس بسديد لأن القاعدة وجوب عود الضمير إلى أقرب مذكور ولا أقرب من نوح ولأن لفظ شيعة لا يقال للمتأخر على المتقدم قال الكميت الأصيفد بن يزيد:
ومعلوم أن آل محمد ومذهب الحق متقدمان عليه لا متأخران، ولم يأت ذكر محمد صلّى اللّه عليه وسلم في هذه الآيات فلا محل للقول بذلك، قال تعالى في وصف إبراهيم عليه السلام مذكرا رسوله محمد به فكأنه قال واذكر لقومك {إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} من الشك في الوحدانية والريب في البعث والمرية في النبوة {إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ} استفهام توبيخ وتقريع لأنه رآهم يعبدون الأصنام والكواكب، وقد أراده على ذلك، فأبى وقال: {أَ إِفْكًا آلِهَةً} أي تختلقون أشياء وتسمونها آلهة والإفك أسوء الكذب وآلهة بدل من الإفك {دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} قدم المفعول للاعتناء به، لأن المقصود الاعتراف به أو إنكاره {فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ} أن يفعل بكم إذا لقيتموه غدا وأنتم تعبدون غيره، أخبروني أيها القوم، وقد شاع قوله هذا لهم حتى بلغ ملكهم فأرسل إليه أن غدا عيدنا فاحضر معنا لزيارة الآلهة، لأن هذه التشريفات التي تعارفها الناس في الأعياد والأيام الرسمية قديمة اقتبسها الأواخر عن الأوائل، ولهذا السبب لما طلب فرعون من موسى تعيين يوم للمباراة مع السحرة عين لهم يوم العيد، راجع الآية 59 من سورة طه في ج 1، فلما جاءته دعوة الملك استشعر هطول الفرصة لحصول ما عسى أن يكون سببا لتوحيدهم، وأراد أن يعتذر عن الحضور على وجه لا ينكرونه عليه {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ} تأمل نوعا من التأمل في أحوالها وهو في نفس الأمر على طرز تأمل الكاملين في في خلق السموات والأرض وتفكرهم في ذلك، إذ هو اللائق به عليه السلام، لكنه أوهم قومه أنه يتفكر في أحوالها من حيث الاتصال والتقابل ونحوهما من الأوضاع التي تدل بزعمهم على الحوادث ليترتب عليها ما يتوصل به إلى غرضه الذي سيكون وسيلة إلى إنقاذهم مما هم فيه فقال: {إِنِّي سَقِيمٌ} مريض، وأراد بذلك مرض القلب من كفرهم وعنادهم وتمسكهم بعبادة الأوثان، أي اني لا أستطيع حضور التشريفات.
ومن هذا القبيل الإبرة الدالة على حدوث الأمطار والهواء والعواصف وغيرها، فإنها قد تختلف أيضا باختلاف الجوّ، فلا يقع ما تشير إليه، لأن تبدل حالة الجو التي هي بيد مالك الملك ومقلّب الأحول تحول دون ذلك إذ لا يستطيع مخترع الأبرة وغيره والعالم أجمع أن يبقى الجو على حالته حينما أشارت إليه الأبرة حتى يقع ما أشارت به، بل إذا أبقاها اللّه تعالى يقع وإلا فلا، وهذا محسوس مشاهد.واعلم أن ما احتج به أهل الهيئة من أن اللّه تبارك وتعالى قد فخم من قدر النجوم يحلفه بها تارة ومدحه لها أخرى في القرآن العظيم لا يفهم منه أن اللّه تعالى إنما عدد ذكرها في مواضع كثيرة في القرآن لأن لها تأثيرا، كلّا، بل لعظمها وكونها دالة على إلهيته، واللّه تعالى ذكر الأنبياء في القرآن أكثر من غيرهم، فهل يقال إنما ذكرهم لما لهم من التأثير بذواتهم المقدسة، كلا وانما لعظم مقامهم عنده وتعظيما لشأنهم عند أقوامهم، لأنهم الواسطة لهداية البشر حتى أنهم مع جلالة قدرهم لا يملكون الشفاعة لأنفسهم وأولادهم وأزواجهم إلا بإذن اللّه القائل {فَلَمَّا أَسْلَما} خضع الأب وابنه لأمر اللّه وانقادا لتنفيذه وعزما على اجرائه عزما جازما باشره الأب {وَتَلَّهُ} أي جرّه {لِلْجَبِينِ} بأن صرع الأب ابنه على الأرض وألصق جبينه بها ووضع السكين على حلقه وأمرها إمرارا قاسيا يقصد ذبحه دون تعذيبه بامرارها كثيرا، ولكنها لم تذبح رغما لشدة حزّها على محل الذبح منه بقوة وجلادة إطاعة لأمر اللّه، وكان قبل حدها حرار حتى رآها أنها تقطع حلقوم الجمل بامرارها عليه مرة واحدة، وهذا دليل قاطع على أن المؤثر الحقيقي في كل شيء هو اللّه تعالى لأن السكين الحادة لا يعقل أنها لا تقطع اللحم كما أن النار لا يعقل أنها لا تحرقه، ولكن اللّه تعالى إذا لم يضع فيها قوة الذبح لا تذبح وكذلك لا تحرق ولما رأى الخليل عليه السلام عدم تمكنه من إمضاء عزيمته في تنفيذ أمر ربه، وقد بذل وسعه بفعل ما يفعل الذابح بالمذبوح فكأنه ذبحه بلا ريب وأن المانع الذي جعله اللّه لا يكون مدار القول بعدم إنفاذ ما جزم به، وصبر الولد على الألم الذي قاساه في إمرار السكين لا يقاس به صبر وتسليمهما لإمضاء هذا الأمر لا يقابله تسليم ولهذا فان اللّه العالم بانقيادهما لأمره انقيادا جازما حال دون ذلك، وأظهره ليطلع عليه الناس، لأنه عالم بما يقع منهما، ولذلك وهب لهما من فيض جوده كبشا وجعله فداء لصفيه إسماعيل وجزاء لخليله إبراهيم عليهما السلام فخاطبه بقوله: {وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ} كف عن ذبح ابنك لقيامك بما أمرت به وأنك حقا {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} وعملت بالجزم فقبلنا فعلك وان ابنك سلّم وانقاد لأمرنا فقبلنا منه خضوعه دون جزع أو ضجر وقد أظهرنا للناس إنابتكما هذه ليعلموا أن أحدا لا يقدر على ما ابتليتما به {إِنَّا كَذلِكَ} مثل هذا العفو الذي عفونا به عن ذبحك ولدك ومثل هذا الفداء الذي فديناه به جزاء الصبر والامتثال منكما {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أمثالك وأمثال ابنك، قال تعالى: {إِنَّ هذا} الامتحان الذي اختبرنا به إبراهيم وابنه وقاما به بنية خالصة وصدق محض {لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} الظاهر الذي تبين به حقيقة الإخلاص {وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} في الجثة والقدر بنسبة المفدى {وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} من بعده ثناء مستمرا إلى يوم القيامة وهو {سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ} من اللّه وملائكته ورسله وعباده كافة {كَذلِكَ} مثل هذا الجزاء الحسن الدائم {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} في الدنيا والآخرة.{إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} الكاملي الإيمان {وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} لعبادتنا وخلافتنا في الأرض لإرشاد خلقنا زيادة في جزائه الحسن.
|