الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده0 قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ـ طيب الله ثراه: في قدرة الرب عز وجل اتفق المسلمون وسائر أهل الملل على أن الله على كل شىء قدير، كما نطق بذلك القرآن في مواضع كثيرة جدًا. وقد بسطت الكلام في الرد على من أنكر قدرة الرب في غير موضع، كما قد كتبناه على [الأربعين]، و[المحصل] وفي شرح [الأصبهانية] وغير ذلك، وتكلمنا على ما ذكره الرازي وغيره /في [مسألة كون الرب قادرًا مختارًا]، وما وقع فيها من التقصير الكثير مما ليس هذا موضعه0 والمقصود هنا: الكلام بين أهل الملل الذين يصدقون الرسل فنقول: هنا مسائل: المسألة الأولى: قد أخبر الله أنه على كل شىء قدير، والناس في هذا على ثلاثة أقوال: طائفة تقول: هذا عام يدخل فيه الممتنع لذاته من الجمع بين الضدين، وكذلك يدخل في المقدور، كما قال ذلك طائفة منهم ابن حزم0 وطائفة تقول: هذا عام مخصوص يخص منه الممتنع لذاته، فإنه وإن كان شيئًا، فإنه لا يدخل في المقدور، كما ذكر ذلك ابن عطية وغيره، وكلا القولين خطأ0 والصواب: هو القول الثالث الذي عليه عامة النظار، وهو: أن الممتنع لذاته ليس شيئًا البتة، و إن كانوا متنازعين في المعدوم، فإن الممتنع لذاته لا يمكن تحققه في الخارج، ولا يتصوره الذهن ثابتًا في الخارج، ولكن يقدر اجتماعهما في الذهن، ثم يحكم على ذلك بأنه ممتنع في الخارج؛ إذ كان يمتنع تحققه في الأعيان، وتصوره في الأذهان، إلا على وجه التمثيل بأن يقال: قد تجتمع/ الحركة والسكون في الشىء، فهل يمكن في الخارج أن يجتمع السواد والبياض في محل واحد، كما تجتمع الحركة والسكون؟ فيقال: هذا غير ممكن، فيقدر اجتماع نظير الممكن ثم يحكم بامتناعه، وأما نفس اجتماع البياض والسواد في محل واحد، فلا يمكن ولا يعقل، فليس بشىء لا في الأعيان ولا في الأذهان، فلم يدخل في قوله: المسألة الثانية: أن المعدوم ليس بشىء في الخارج عند الجمهور وهو الصواب0 وقد يطلقون أن الشىء هو الموجود، فيقال على هذا: فيلزم ألا يكون قادرًا إلا على موجود، وما لم يخلقه لا يكون قادرًا عليه، وهذا قول بعض أهل البدع، قالوا: لا يكون قادرًا إلا على ما أراده، دون ما لم يرده، ويحكى هذا عن تلميذ النظام. والذين قالوا: إن الشىء هو الموجود ـ من نظار المثبتة كالأشعري، ومن وافقه من أتباع الأئمة؛ أحمد وغير أحمد، كالقاضي أبي يعلى وابن الزاغوني وغيرهما ـ يقولون: إنه قادر على الموجود، فيقال: إن هؤلاء أثبتوا ما لم تثبته الآية، فالآية أثبتت قدرته على الموجود، وهؤلاء قالوا: هو قادر على الموجود والمعدوم0 والتحقيق: أن الشىء اسم لما يوجد في الأعيان، ولما يتصور في الأذهان، فما قدَّره الله وعلم أنه سيكون هو شىء في التقدير والعلم والكتاب، وإن لم يكن/شيئًا في الخارج. ومنه قوله: قال المفسرون: لقادرون على أن نذهب به حتى تموتوا عطشًا، وتهلك مواشيكم، وتخرب أراضيكم. ومعلوم أنه لم يذهب به، وهذا كقوله: المسألة الثالثة: أنه على كل شىء قدير، فيدخل في ذلك /أفعال العباد وغير أفعال العباد. وأكثر المعتزلة يقولون: إن أفعال العبد غير مقدورة0 المسألة الرابعة: أنه يدخل في ذلك أفعال نفسه، وقد نطقت النصوص بهذا، وهذا كقوله تعالى: والقدرة على الأعيان جاءت في مثل قوله: وقد يستدل بقوله: وقد تنازع الناس في قدرة الرب والعبد، فقالت طائفة: كلا النوعين يتناول الفعل القائم بالفاعل، ويتناول مقدوره وهذا أصح الأقوال، وبه نطق الكتاب والسنة، وهو أن كل نوع من القدرتين يتناول الفعل القائم بالقادر ومقدوره المباين له، وقد تبين بعض ما دل على ذلك في قدرة الرب. وأما قدرة العبد، فذكر قدرته على الأفعال القائمة به كثيرة، وهذا متفق عليه بين الناس الذين يثبتون للعبد قدرة، مثل قوله: /وأما المباين لمحل القدرة، فمثل قوله: قال أبو الفرج: وفي قوله: {قّادٌرٌينّ} ثلاثة أقوال: أحدها: قادرين على جنتهم عند أنفسهم، قاله قتادة. قلت: وهو قول مجاهد وقتادة، رواه ابن أبي حاتم عنهما. قال مجاهد: قادرين في أنفسهم، وهذا الذي ذكره البغوي: قادرين عند أنفسهم على جنتهم، وثمارها، لا يحول بينهم وبينها أحد، وعن قتادة قال: غدا القوم وهم يحدون إلى جنتهم، قادرين على ذلك في أنفسهم0 قال أبو الفرج: والثاني: قادرين على المساكين، قاله الشعبي، أي: على منعهم. وقيل: على إعطائهم لكن البخل منعهم من الإعطاء، والله أعلم0 والثالث: غدوا وهم قادرين، أى: واجدون، قاله ابن قتيبة0 قلت: الآية وصفتهم بأنهم غدوا على حرد قادرين، فالحرد يرجع إلى القصد، فغدوا بإرادة جازمة وقدرة، ولكن الله أعجزهم. وقول من قال: قادرين عند أنفسهم، أى: ظنوا أن الأمر يبقى كما كان، ولو كان كذلك، لتمت قدرتهم، لكن سلبوا القدرة بإهلاك جنتهم0 /قال البغوي: الحرد في اللغة يكون بمعنى القصد والمنع والغضب. قال الحسن وقتادة وأبو العالية: على جد وجهد. وقال القرطبي ومجاهد وعكرمة: على أمر مجتمع قد أسسوه بينهم. قال: وهذا على معنى القصد؛ لأن القاصد إلى الشىء جاد مجمع على الأمر. وقال أبو عبيدة والقُتَيبي: غدوا من أنفسهم على حرد: على منع المساكين، يقول: حاردت السَّنَةُ: إذا لم يكن لها مطر، وحاردت الناقة علىّ: إذا لم يكن لها لبن. وقال الشعبي وسفيان: على حنق وغضب من المساكين. وفي تفسير الوالبي: عن ابن عباس: على قدرة0 قلت: الحرد فيه معنى العزم الشديد، فإن هذا اللفظ يقتضى هذا، وحرد السنة والناقة لما فيه من معنى الشدة، وكذلك الحنق والغضب فيه شدة؛ فكان لهم عزم شديد على أخذها، وعلى حرمان المساكين، وغدوا بهذا العزم قادرين ليس هناك ما يعجزهم وما يمنعهم، لكن جاءها أمر من السماء فأبطل ذلك كله، وقيل: الحرد: هو الغيظ والغضب، والله أعلم0 ونظير هذا ـ وهو صريح في المطلوب ـ أن القدرة تكون على الأعيان، قوله تعالى: وقوله تعالى: وقوله تعالى: /ومما يبين ذلك: أن الملك نائب للعباد على ما ملكهم الله إياه، والملك مستلزم للقدرة فلا يكون مالكًا إلا من هو قادر على التصرف بنفسه، أو بوليه أو وكيله، والعقد والمنقول مملوك لمالكه، فدل على أنه مقدور له، وقد قال موسى: وأيضًا، فالقرآن دل على أن المفعولات الخارجة مصنوعة لهم، وما كان مصنوعًا لهم فهو مقدور بالضرورة والاتفاق، والمنازع يقول: ليس شىء خارجًا عن محل قدرتهم مصنوعًا لهم، و هذا خلاف القرآن، قال تعالى لنوح: /فجعل الأصنام منحوتة معمولة لهم، وأخبر أنه خالقهم، وخالق معمولهم فإن [ما] هاهنا بمعنى الذي، والمراد خلق ما تعملونه من الأصنام، وإذا كان خالقًا للمعمول وفيه أثر الفعل، دل على أنه خالق لأفعال العباد. وأما قول من قال: [ما] مصدرية، فضعيف جدًا0 وقال تعالى: ومنه قوله تعالى: قال أبو عبيد: ما ظفرت أنت ولا أصبت، ولكن الله ظفرك وأيدك. وقال الزجاج: ما بلغ رميك كفًا من تراب، أو حصًا أن يملأ عيون ذلك الجيش الكثير، إنما الله تولى ذلك. وذكر ابن الأنباري: ما رميت قلوبهم بالرعب، إذ رميت وجوههم بالتراب. ولهذا كان هذا أمرًا خارجًا عن مقدوره، فكان من آيات نبوته0 وقيل: بل الرب ـ تعالى ـ لا يقدر إلا على المخلوق المنفصل لا يقوم به فعل يقدر عليه، والعبد لا يقدر إلا على ما يقوم بذاته، لا يقدر على شىء منفصل عنه، وهذا قول الأشعري ومن وافقه من أتباع الأئمة: كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وابن الزاغوني وغيرهم0 وقيل: إن العبد يقدر على هذا وهذا، والرب لا يقدر إلا على المنفصل وهو قول المعتزلة، وقيل: إن كليهما يقدر على ما يقوم به دون المنفصل، وما علمت أحدًا قال: كلاهما يقدر على المنفصل دون المتصل0 المسألة الخامسة: أن القدرة هي قدرته على الفعل، والفعل نوعان: / لازم، و متعد، والنوعان في قوله: والناس في هذين النوعين على ثلاثة أقوال: منهم من لا يثبت فعلا قائما بالفاعل، لا لازمًا ولا متعديًا، أما اللازم فهو عنده منتفٍ، وأما المتعدى ـ كالخلق ـ فيقول: الخلق هو المخلوق، أو معنى غير المخلوق، وهذا قول الجهمية والمعتزلة، ومن اتبعهم كالأشعري ومتبعيه، وهذا أول قولي القاضي أبي يعلى، وقول ابن عقيل. وكثير من المعتزلة يقولون: الخلق هو المخلوق. وآخرون يقولون: هو غيره، لكن يقولون: بأن الخلق له خلق آخر، كما يقوله مَعْمَر بن عَبَّاد، ويسمون أصحاب المعاني المتسلسلة. ومنهم من يقول: الخلق هو نفس الإرادة، كما يقوله من يقوله من بعض المعتزلة من أهل البصرة0 والقول الثاني: أن الفعل المتعدي قائم بنفسه دون اللازم. فيقولون: الخلق قائم بنفسه ليس هو المخلوق. وهم على قولين: /منهم من جعل ذلك الفعل حادثًا0 ومنهم من يجعله قديمًا، فيقول: التخليق والتكوين قديم أزلي. وهؤلاء منهم من يجعل عين التخليق شيئًا واحدًا هو قديم، والمخلوقين مادته؛ ولكنه قديم أزلي، ولا يثبتون نزولا قائمًا بنفسه، ولا استواء؛ لأن هذه حوادث وهذا قول الكُلابِيَّة الذين يقولون: فعله قديم مثل كلامه، كما قال أصحاب ابن خُزَيْمَة، وهو قول كثير من الحنفية والحنبلية والمالكية والشافعية، ومنهم من يجعل القديم هو النوع وأفراده حادثة، فعلى هذا القول يكون الفعل نفسه مقدورًا، وأما على قول من يجعله شيئًا معينًا، فهؤلاء إن قالوا: قديم، تناقضوا ولزمهم أن يكون القديم المعين مقدورًا، وإن قالوا: هو غير مقدور، تناقضوا؛ لأن الفعل يجب أن يكون مقدورًا، والله أعلم0 والقول الثالث: إثبات الفعلين: اللازم والمتعدي كما دل عليه القرآن، فنقول: إنه كما أخبر عن نفسه: إنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، وهو قول السلف وأئمة السنة، وهو قول من يقول: إنه تقوم به الصفات الاختيارية كأصحاب أبي معاذ وزهير البابي وداود بن علي والكَرَّامِيَّة وغيرهم من الطوائف، وإن كانت الكرامية يقولون: بأن النزول والإتيان أفعال تقوم به، وهؤلاء يقولون: يقدر على أن يأتي ويجيء وينزل ويستوي، ونحو ذلك من الأفعال، كما أخبر عن نفسه، وهذا هو الكمال0 /وقد صرح أئمة هذا القول بأنه يتحرك، كما ذكر ذلك حرب الكَرْماني عن أهل السنة والجماعة، وسمى منهم: أحمد بن حنبل، وسعيد بن منصور، وإسحاق بن إبراهيم وغيرهم. وكذلك ذكره عثمان بن سعيد الدارمي عن أهل السنة، وجعل نفي الحركة عن الله ـ عز وجل ـ من أقوال الجهمية التي أنكرها السلف، وقال: كل حي متحرك، وما لا يتحرك فليس بحي. وقال بعضهم: إذا قال لك الجهمي: أنا كافر برب يتحرك، فقل: أنا مؤمن برب يفعل ما يشاء0 وهؤلاء يقولون: من جعل هذه الأفعال غير ممكنة ولا مقدورة له، فقد جعله دون الجماد، فإن الجماد وإن كان لا يتحرك بنفسه فهو يقبل الحركة في الجملة. وهؤلاء يقولون: إنه ـ تعالى ـ لا يقبل ذلك بوجه ولا تمكنه الحركة، والحركة والفعل صفة كمال، كالعلم والقدرة والإرادة، فالذين ينفون تلك الصفات سلبوه صفات الكمال، فكذلك هؤلاء الكلابية0 وأولئك ـ نفاة الصفات ـ إذا قيل لهم: لو لم يكن حيًا، عليمًا، سميعًا، بصيرًا، متكلمًا؛ للزم أن يكون ميتًا، جاهلاً، أصم، أعمى، أخرس، وهذه نقائص يجب تنزيهه عنها، فإنه ـ سبحانه ـ قد خلق من هو حي سميع بصير متكلم عالم، قادر متحرك، فهو أولى بأن يكون كذلك، فإن كل كمال في المخلوق المعلول فهو من كمال الخالق الذي يسمونه علة فاعلية. /وأيضًا، فالقديم الواجب بنفسه أكمل من المحدث، فيمتنع أن يختص الناقص بالكمال. قالوا: وأما الجماد فلا يسمي حيًا ولا ميتًا. وقد ذكرنا في غير موضع الجواب عن هذه بأجوبة: أحدها: أن قولهم: إن الجماد لا يسمى حيًا، وإنما يسمى ميتًا ما كان قابلاً للحياة: هو اصطلاح، وإلا فالقرآن قد سمى الجماد ميتًا في غير موضع، كقوله تعالى: الوجه الثاني: لا نسلم امتناع قبول هذه الحياة، بل الرب ـ تعالى ـ قد جعل الجمادات قابلة للحياة، ولا يمتنع قبولها لها، فإن الله تعالى قد جعل عصى موسى حية تسعى، فدل على أن الخشب يمكن أن يكون حيوانًا، وموسى لما اغتسل جعل ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه، وقد أحيا الله الحوت المشوي الذي كان معه ومع فتاه، وقد سبح الحصا والطعام ـ سبح وهو يؤكل ـ وكان حجر يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وحن الجذع، والجبال سبحت مع داود، ونظائر هذا كثيرة، وقد قال تعالى: الوجه الثالث: أن يقال: هب أنه لا يوصف بالموت إلا ما قبل الحياة، فمعلوم أن ما قبل الحياة أكمل ممن لا يقبلها، فالجنين في بطن أمه قبل أن ينفخ/ فيه الروح أكمل من الحجر، وقد قال تعالى: وأيضًا، فيقال لهم: رب العالمين إما أن يقبل الاتصاف بالحياة والعلم ونحو ذلك، وإما ألا يقبل، فإن لم يقبل ذلك ولم يتصف به، كان دون الأعمى الأصم الأبكم، وإن قبلها ولم يتصف بها، كان ما يتصف بها أكمل منه، فجعلوه دون الإنسان والبهائم، وهكذا يقال لهم في أنواع الفعل القائم به ـ كالإتيان، والمجىء، والنزول، وجنس الحركةـ: إما أن يقبل ذلك وإما ألا يقبله، فإن لم يقبله، كانت الأجسام التي تقبل الحركة ولم تتحرك أكمل منه، وإن قبل ذلك ولم يفعله، كان ما يتحرك أكمل منه، فإن الحركة كمال للمتحرك، ومعلوم أن من يمكنه أن يتحرك بنفسه أكمل ممن لا يمكنه التحرك، وما يقبل الحركة أكمل ممن لا يقبلها0 والنفاة عمدتهم أنه لو قبل الحركة لم يخل منها، ويلزم وجود حوادث لا تتناهى، ثم ادعوا نفي ذلك وفي نفيه نقائص لا تتناهى، والمثبتون لذلك يقولون: هذا هو الكمال، كما قال السلف: لم يزل الله متكلمًا إذا شاء، كما قال ذلك ابن المبارك، وأحمد بن حنبل وغيرهما. وذكر البخاري عن نعيم بن حماد أنه قال: الحي هو الفعال، وما ليس بفعال فليس بحي. وقد عرف/ بطلان قول الجهمية وغيرهم بامتناع دوام الفعل والحوادث، كما قد بسط في غير هذا الموضع0 والمقصود هاهنا، أن هؤلاء لا يجعلونه قادرًا على هذه الأفعال، وهي أصل الفعل، فلا يكون على شىء قدير على قولهم، بل ولا على شىء، وقد قال: وذكروا في قوله: وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود: أن حبرًا من اليهود قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن الله يوم القيامة يجعل السموات على/ إصبع، والأرض على إصبع، والجبال والشجر على إصبع، والماء والثَّرَى وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن، ويقول: أنا الملك. قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ: وفي السنن: عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقام فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ، قال: ثم ركع بقدر قيامه يقول في ركوعه: (سبحان ذي الجبروت و الملكوت والكبرياء والعظمة)، ثم يسجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك، ثم قام فقرأ بآل عمران، ثم قرأ سورة. رواه أبو داود والنسائي والترمذي في الشمائل. فقال في هذا الحديث: (سبحان ذي/ الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة). وهذه الأربعة نوزع الرب فيها، كما قال: (أين الملوك؟! أين الجبارون؟! أين المتكبرون؟!)، وقال عز وجل: (العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عذبته)0 ونفاة الصفات ما قدروا الله حق قدره، فإنه عندهم لا يمسك شيئًا ولا يقبضه ولا يطويه، بل كل ذلك ممتنع عليه، ولا يقدر على شىء من ذلك، وهم ـ أيضًا ـ في الحقيقة يقولون: ما أنزل الله على بشر من شىء لوجهين: أحدهما: أن الإنزال إنما يكون من علو، والله ـ تعالى ـ عندهم ليس في العلو، فلم ينزل منه شىء، وقد قال تعالى: والثاني: أنه لو كان من مخلوق لكان صفة له وكلاماً له، فإن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل؛ ولأن الله لا يتصف بالمخلوقات، ولو اتصف بذلك لاتصف بأنه مصوت إذا خلق الأصوات، ومتحرك إذا خلق الحركات في غيره، إلى غير ذلك، إلى أن قال: فقد تبين أن الجهمية ما قدروا /الله حق قدره، وإنهم داخلون في هذه الآية، وإنهم لم يثبتوا قدرته لا على فعل ولا على الكلام بمشيئته، ولا علي نزوله، ولا على إنزاله منه شيئًا، فهم من أبعد الناس عن التصديق بقدرة الله، وأنه على كل شىء قدير، وإذا لم يكن قديرًا لم يكن قويًا، ويلزمهم أنه لم يخلق شيئًا، فيلزمهم الدخول في قوله: فهم ينفون حقيقة قدرته في الأزل، وحقيقة قولهم: إنه صار قادرًا بعد أن لم يكن، والقدرة التي يثبتونها لا حقيقة لها0 وهذا أصل مهم، من تصوره عرف حقيقة الأقوال الباطلة، وما يلزمها من اللوازم، وعرف الحق الذي دل عليه صحيح المنقول، وصريح المعقول، لا سيما في هذه الأصول التي هي أصول كل الأصول، والضالون فيها لما ضيعوا الأصول حرموا الوصول، وقد تبين أنه كلما تحققت الحقائق، وأعطى النظر والاستدلال حقه من التمام؛ كان ما دل عليه القرآن هو الحق، وهو الموافق للمعقول الصريح الذي لم يشتبه بغيره مما يسمى معقولاً، وهو مشتبه مختلط، كما قال مجاهد في قوله تعالى: والصواب: هو ما كان موافقًا للشرع مبينًا في العقل، فإن الله ـ سبحانه ـ أخبر أن القرآن منزل منه، وأنه تنزيل منه، وأنه كلامه، وأنه قوله، وأنه كفر من قال: إنه قول البشر، وأخبر أنه قول رسول كريم من الملائكة ورسول كريم/من البشر، والرسول يتضمن المرسل، فبين أن كلا من الرسولين بلغه، لم يحدث هو منه شيئًا، وأخبر أنه جعله قرآنًا عربيًا، وقال عما ينزل منه جديدًا بعد نزول غيره قديمًا: والذين قالوا: إنه مخلوق، ليس معهم حجة إلا ما يدل على أنه تكلم بمشيئته وقدرته، وهذا حق، لكن ضموا إلى ذلك أن ما كان بمشيئته لا يقوم بذاته، فغلطوا ولبسوا الحق بالباطل، فضموا ما نطق به القرآن الموافق للشرع والعقل إلى ما أحدثوه من البدع والشبهات0 وكذلك الذين قالوا: إنه قديم، ليس معهم إلا ما يدل على أنه قائم بذاته، لكن ضموا إلى ذلك أن ما يقوم بذاته لا يكون بمشيئته وقدرته، فأخطؤوا في ذلك ولبسوا الحق بالباطل، وأولئك فسروا قوله: ولهذا قال أحمد: الجعل من الله قد يكون خلقًا وقد يكون غير خلق، فالجعل فعل، والفعل قد يكون متعديًا إلى مفعول مباين له؛ كالخلق، وقد يكون الفعل لازمًا وإن كان له مفعول في اللغة كان مفعوله قائمًا بالفعل؛ مثل التكلم، فإن التكلم فعل يقوم بالمتكلم والكلام نفسه قائم بالمتكلم، فهو ـ سبحانه ـ جعله قرآنًا عربيًا، فالجعل قائم به والقرآن العربي قائم به، فإن الكلام يتضمن شيئين: يتضمن فعلا؛ هو التكلم، والحروف المنظومة والأصوات الحاصلة بذلك الفعل؛ ولهذا يجعل القول تارة نوعًا من الفعل، وتارة قسيمًا للفعل، كما قد بسطت هذه الأمور في غير هذا الموضع، والله أعلم0 وقد ذكرت في غير هذا الموضع: أنه ما احتج أحد بدليل سمعي أو عقلي على باطل، إلا وذلك الدليل إذا أعطى حقه وميز ما يدل عليه مما لا يدل؛ تبين أنه يدل على فساد قول المبطل المحتج به، وأنه دليل لأهل الحق، وأن الأدلة الصحيحة لا يكون مدلولها إلا حقا، والحق لا يتناقض، بل يصدق بعضه بعضًا، والله أعلم0 المسألة السادسة: دوام كونه قادرًا في الأزل والأبد، فإنه قادر ولا /يزال قادرًا على ما يشاؤه بمشيئته، فلم يزل متكلما إذا شاء وكيف شاء، وهذا قول السلف والأئمة كابن المبارك وأحمد0 إلى أن قال: وفي صحيح البخاري ـ تعليقًا ـ عن سعيد بن جبير؛ أن رجلاً سأل ابن عباس عن قوله: والمقصود هنا التنبيه على تنازع الناس في مسألة القدرة. وفي الحقيقة أنه من لم يقل بقول السلف فإنه لا يثبت لله قدرة، ولا يثبته قادرًا، فالجهمية ومن اتبعهم، والمعتزلة والقدرية المجبرة والنافية، حقيقة قولهم: إنه ليس قادرًا وليس له الملك، فإن الملك إما أن يكون هو القدرة، أو المقدور، أو كلاهما، وعلى كل تقدير فلابد من القدرة، فمن لم يثبت له القدرة حقيقة لم يثبت له ملكًا، كما لا يثبتون له حمدًا0 إلى أن قال: وأيضًا فالقديم الأزلي: القيوم الصمد الواجب الوجود بنفسه، الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، أحق بالكمال من الممكن المحدث المفتقر، فيمتنع أن يكون هذا قادرًا على الكلام والفعل، والقيوم/ الصمد ليس قادرًا على الفعل والكلام، إلى أن قال: والمقصود هنا أنه ـ سبحانه ـ عدل لا يظلم وعدله إحسان إلى خلقه، فكل ما خلقه فهو إحسان إلى عباده؛ ولهذا كان مستحقًا للحمد على كل حال؛ ولهذا ذكر في سورة النجم أنواعًا من مقدوراته، ثم قال: وكذلك ما ذكره في سورة الرحمن، وكل مخلوق هو من آلائه من وجوه: منها أنه يستدل به عليه وعلى توحيده وقدرته وغير ذلك، وأنه يحصل به الإيمان والعلم وذكر الرب. وهذه النعمة أفضل ما أنعم الله به على عباده في الدنيا، وكل مخلوق يعين عليها ويدل عليها، هذا مع ما في المخلوقات من المنافع لعباده غير الاستدلال بها، فإنه ـ سبحانه ـ يقول: /وأيضًا، ففيها نعم ومنافع لعباده غير الاستدلال، كما في خلق الشمس والقمر والسحاب والمطر والحيوان والنبات، فإن هذه كلها من آياته، وفيها نعم عظيمة على عباده غير الاستدلال، فهي توجب الشكر لما فيها من النعم، وتوجب التذكر لما فيها من الدلالة، قال تعالى: وقد ذم ـ سبحانه ـ من كفر بعد إيمانه كما قال: وفي صحيح مسلم ـ أيضًا ـ عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنزل من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين، ينزل الله الغَيْث فيقول: الكوكب كذا وكذا)، وفي لفظ له: (بكوكب كذا وكذا)، وفي الصحيحين عن زيد بن خالد الجُهَنِيّ قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح على إثر سَمَاء كانت من الليل، قال: (أتدرون ماذا قال ربكم؟). قالوا: الله ورسوله أعلم ! قال: (قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: مُطِرْنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بِنَوْءِ كذا وكذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب)، وهذا كثير جدًا في الكتاب والسنة، يذم ـ سبحانه ـ من يضيف إنعامه إلى غيره، ويشركه به، قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقًا0 ولهذا قرن الشكر بالتوحيد في الفاتحة وغيرها؛ أولها شكر، وأوسطها توحيد، وفي الخطب المشروعة لابد فيها من تحميد وتوحيد، وهذان هما ركن في كل خطاب، ثم بعد ذلك يذكر المتكلم من مقصوده ما يناسب من الأمر والنهي والترغيب والترهيب، وغير ذلك0 /وقوله: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد)، يتضمن التوحيد والتحميد، وكذلك كان يقول عقب الصلاة: (لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون)، وهو ـ سبحانه ـ يفتتح خطابه بالحمد ويختم الأمور بالحمد، وأول ما خلق آدم كان أول شىء أنطقه به الحمد، فإنه عطس فأنطقه بقوله: الحمد لله، فقال له: يرحمك ربك يا آدم! وكان أول ما تكلم به الحمد، وأول ما سمعه الرحمة0 وهو يختم الأمور بالحمد كقوله: والتوحيد أول الدين وآخره، فأول ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم شهادة أن لا إله إلا الله، وقال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) ، وقال لمعاذ: (إنك تأتي قومًا أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله)، وختم الأمر بالتوحيد فقال في الصحيح ـ من رواية مسلم ـ عن عثمان: (من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة)، وفي الحديث الصحيح من رواية مسلم عن أبي هريرة: (لَقِّنُوا موتاكم لا إله إلا الله)، وفي السنن من حديث معاذ: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)، وفي المسند(إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد /حين الموت إلا وجد روحه لها روحًا)، وهي الكلمة التي عرضها على عمه عند الموت0 فهو ـ سبحانه ـ جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا، فيتذكر الآيات المثبتة للعلم والإيمان، فإذا عرف آلاء الله شكره على آلائه، وكلاهما متلازمان، فالآيات والآلاء متلازمان، ما كان من الآلاء فهو من الآيات، وما كان من الآيات فهو من الآلاء، وكذلك الشكر والتذكر متلازمان، فإن الشاكر إنما يشكر بحمده، وطاعته، وفعل ما أمر به، وذلك إنما يكون بتذكر ما تدل عليه آياته من أسمائه وممادحه، ومن أمره ونهيه، فيثنى عليه بالخير، ويطاع في الأمر هذا هو الشكر، ولابد فيهما من التذكر، والمتذكر إذا تذكر آياته عرف ما فيها من النعمة والإحسان، فآياته تعم المخلوقات كلها، وهي خير ونعم وإحسان. فكل ما خلقه ـ سبحانه ـ فهو نعمة على عباده، وهو خير، وهو ـ سبحانه ـ بيده الخير، والخير بيديه، وفي دعاء القنوت(ونثني عليك الخير كله)، وفي دعاء الاستفتاح: (والخير بيديك، والشر ليس إليك)0 وكل ما خلقه الله فله فيه حكمة، كما قال: أحدهما: حكمة تعود إليه يحبها ويرضاها0 /والثاني: إلى عباده، هي نعمة عليهم يفرحون بها و يلتذون بها، وهذا في المأمورات وفي المخلوقات0 أما في المأمورات، فإن الطاعة هو يحبها ويرضاها، ويفرح بتوبة التائب أعظم فرح يعرفه الناس، فهو يفرح أعظم مما يفرح الفاقد لزاده وراحلته في الأرض المهلكة إذا وجدها بعد اليأس، كما أنه يغار أعظم من غيرة العباد، وغيرته أن يأتي العبد ما حرم عليه، فهو يغار إذا فعل العبد ما نهاه، ويفرح إذا تاب ورجع إلى ما أمره به، والطاعة عاقبتها سعادة الدنيا والآخرة، وذلك مما يفرح به العبد المطيع، فكان فيما أمر به من الطاعات عاقبته حميدة تعود إليه وإلى عباده، ففيها حكمة له ورحمة لعباده، قال تعالى: ففي الجهاد عاقبة محمودة للناس في الدنيا يحبونها، وهي النصر والفتح، وفي الآخرة الجنة، وفيه النجاة من النار، وقد قال في أول السورة: والناس لما تكلموا في علة الخلق وحكمته؛ تكلم كل قوم بحسب علمهم، فأصابوا وجهًا من الحق، وخفى عليهم وجوه أخرى0 وهكذا عامة ما تنازع فيه الناس، يكون مع هؤلاء بعض الحق، وقد تركوا بعضه وكذلك مع الآخرين، ولا يشتبه على الناس الباطل المحض، بل لابد أن يشاب بشىء من الحق؛ فلهذا لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، فإنهم هم الذين آمنوا بالحق كله، وصدقوا كل طائفة فيما قالوه من الحق، فهم جاؤوا بالصدق وصدقوا به فلا يختلفون0 ولأهل الكلام هنا ثلاثة أقوال لثلاث طوائف مشهورة، وقد وافق كل طائفة ناس من أصحاب الأئمة الأربعة، أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد: القول الأول: قول من نفى الحكمة وقالوا: هذا يفضي إلى الحاجة، فقالوا: يفعل ما يشاء لا لحكمة، فأثبتوا له القدرة والمشيئة، وإنه يفعل ما يشاء. وهذا تعظيم، ونفوا الحكمة لظنهم أنها تستلزم الحاجة، وهذا قول الأشعري وأصحابه ومن وافقهم؛ كالقاضي أبي يَعْلَى وابن الزاغوني والجُوَيْني/والباجي ونحوهم، وهذا القول في الأصل قول جَهْم ابن صفوان ومن اتبعه من المجبرة0 والفلاسفة لهم قول أبعد من هذا، وهو: أن ما يقع من عذاب النفوس وغير ذلك من الضرر لا يمكن دفعه، فإنهم يقولون: إنه موجب بذاته، وكل ما يقع هو من لوازم ذاته. ولو قالوا: إنه موجب بمشيئته وقدرته لما يفعله لكانوا قد أصابوا، وقد قالوا ـ أيضًا ـ: الشر يقع في العالم مغلوبًا مع الخير في الوجود، وهذا صحيح؛ لكن هذا يستلزم أن يكون الخالق قد خلق لحكمة معلومة تسلم ولا تعد، وإلا فمع انتفاء هذين يبقى الكلام ضائعًا، ففي قول كل طائفة نوع من الحق ونوع من الباطل، فهذه أربعة أقوال0 والقول الخامس، قول الأئمة، وهو أن له حكمة في كل ما خلق، بل له في ذلك حكمة ورحمة 0 والقول الثاني ـ أي: من الثلاثة التي لأهل الكلام ـ: أنه يخلق ويأمر لحكمة تعود إلى العباد، وهو نفعهم والإحسان إليهم، فلم يخلق، ولم يأمر إلا لذلك، وهذا قول المعتزلة وغيرهم، ثم من هؤلاء من تكلم في تفصيل الحكمة، فأنكر القدر، ووضع لربه شرعًا بالتعديل والتجويز، وهذا قول القدرية. ومنهم من أقر بالقدر وقال: لله حكمة خفيت علينا. وهذا قول ابن عقيل/ وغيره من المثبتين للقدر، فهم يوافقون المعتزلة على إثبات حكمة ترجع إلى المخلوق لكن يقرون مع ذلك بالقدر0 والقول الثالث: قول من أثبت حكمة تعود إلى الرب، لكن بحسب علمه، فقالوا: خلقهم ليعبدوه ويحمدوه ويثنوا عليه ويمجدوه، وهم من خلقه لذلك، وهم من وجد منه ذلك فهو مخلوق لذلك، وهم المؤمنون، ومن لم يوجد منه ذلك فليس مخلوقًا له. قالوا: وهذه حكمة مقصودة وهي واقعة، بخلاف الحكمة التي أثبتتها المعتزلة، فإنهم أثبتوا حكمة هي نفع العباد، ثم قالوا: خلق من علم أنه لا ينتفع بالخلق بل يتضرر به، فتناقضوا، ونحن أثبتنا حكمة علم أنها تقع فوقعت، وهي معرفة عباده المؤمنين به، وحمدهم له، وثناؤهم عليه، وتمجيدهم له، وهذا واقع من المؤمنين. قالوا: وقد يخلق من يتضرر بالخلق لنفع الآخرين، وفعل الشر القليل لأجل الخير الكثير حكمة، كإنزال المطر لنفع العباد وإن تضمن ضررًا لبعض الناس. قالوا: وفي خلق الكفار وتعذيبهم اعتبار للمؤمنين، وجهاد ومصالح. وهذا القول اختيار القاضي أبي حازم ابن القاضي أبي يعلى، ذكره في كتابه [أصول الدين] الذي صنفه على كتاب محمد بن الهَيْصَم الكَرّامِيّ. قالوا: وقوله تعالى: قالوا: وهي غاية مقصودة واقعة، فإن العبادة وقعت من المؤمنين، وهذا القول اختيار أبي بكر بن الطيب، والقاضي أبي يعلى وغيرهما ممن يقول:إنه لا يفعل لعلة، قالوا ـ واللفظ للقاضي أبي يعلى ـ: هذا بمعنى الخصوص لا العموم؛ لأن البُلْه والأطفال والمجانين لا يدخلون تحت الخطاب، وإن كانوا من الإنس ،وكذلك الكفار يخرجون من هذا بدليل قوله: قلت:قول هؤلاء الكرامية ومن وافقهم،وإن كان أرجح من قول الجهمية والمعتزلة، فيما أثبتوه من حكمة الله، وقولهم في تفسير الآية، وإن وافقوا فيه بعض السلف، فهو قول ضعيف مخالف لقول الجمهور، ولما تدل عليه الآية، فإن قصد العموم ظاهر في الآية، وبين بيانًا لا يحتمل النقيض ؛ إذ لو كان المراد المؤمنين فقط لم يكن فرق بينهم وبين الملائكة، فإن الجميع قد فعلوا ما خلقوا له،/ ولم يذكر الإنس والجن عمومًا، ولم تذكر الملائكة، مع أن الطاعة والعبادة وقعت من الملائكة دون كثير من الإنس والجن. وأيضًا، فإن سياق الآية يقتضي أن هذا ذم وتوبيخ لمن لم يعبد الله منهم؛ لأن الله خلقه لشىء فلم يفعل ما خلق له؛ ولهذا عقبها بقوله: وذكر عقابه لهم في الدنيا والآخرة، فقال تعالى في أولها: وأما قوله: فهذا كله يتضمن أمر الإنس والجن بعبادته وطاعته وطاعة رسله، واستحقاق من يفعل العقوبة في الدنيا والآخرة، فإذا قال بعد ذلك: فإذا قيل: لم يرد بذلك إلا المؤمنين، كان هذا مناقضًا لما تقدم ـ يعني في السورة ـ وصار هذا كالعذر لمن لا يعبده ممن ذمه الله ووبخه، وغايته يقول: أنت لم تخلقني لعبادتك وطاعتك، ولو خلقتني لها لكنت عابدًا، وإنما خلقت هؤلاء فقط لعبادتك، وأنا خلقتني لأكفر بك وأشرك بك، وأكذب رسلك، وأعبد الشيطان وأطيعه، وقد فعلت ما خلقتني له كما فعل أولئك المؤمنون ما خلقتهم له، فلا ذنب لي، ولا أستحق العقوبة، فهذا وأمثاله مما يلزم أصحاب هذا القول، وكلام الله منزه عن هذا، وهم إنما قالوا هذا؛ لأن الله ـ تعالى ـ فعال لما يريد، قالوا: فلو كان أراد منهم أن يطيعوه؛ لجعلهم مطيعين، كما جعل المؤمنين. والقدرية يقولون: لم يرد من هؤلاء ولا هؤلاء إلا الطاعة، لكن هو لم يجعل لا هؤلاء ولا هؤلاء مطيعين، بل الإرادة بمعنى الأمر يأمر بها الطائفتين، فهؤلاء عبدوه بأن أحدثوا إرادتهم وطاعتهم، وهؤلاء عصوه بأن أحدثوا إرادتهم ومعصيتهم. وأولئك علموا فساد قول القدرية من جهة أن الله خالق كل شىء، وربه ومليكه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في ملكه إلا ما شاءه، ولا يكون في ملكه شىء إلا بقدرته وخلقه ومشيئته، كما دل على ذلك السمع/ والعقل، وهذا مذهب الصحابة قاطبة، وأئمة المسلمين وجمهورهم، وهو مذهب أهل السنة؛ فلأجل هذا عدل أولئك في تفسير الآية إلى الخصوص، فإنهم لم يمكنهم الجمع بين الإيمان بالقدر، وبين أن يكون خلقهم لعبادته، فلم تقع منهم العبادة له، وقالوا: من ذرأه لجهنم لم يخلقه لعبادته، فمن قال: خلق الخلق ليعبده المؤمنون منهم، سلك هذا المسلك. وأما نفاة الحكمة، كالأشعري وأتباعه كالقاضي أبي بكر وأبي يعلي وغيرهم، فهؤلاء أصلهم: أن الله لا يخلق شيئًا لشىء، فلم يخلق أحدًا لا لعبادة ولا لغيرها، وعندهم ليس في القرآن لام كي، لكن قد يقولون: في القرآن لام العاقبة، كقوله: أحدها: أن لام العاقبة التي لم يقصد فيها الفعل لأجل العاقبة، إنما تكون من جاهل أو عاجز، فالجاهل كقوله: /الثاني: أن الله أراد هذه الغاية بالاتفاق، فالعبادة التي خلق الخلق لأجلها هي مرادة له بالاتفاق،وهم يسلمون أن الله أرادها، وحيث تكون اللام للعاقبة لا يكون الفاعل أراد العاقبة، وهؤلاء يقولون: خلقهم وأراد أفعالهم، وأراد عقابهم عليها، فكل ما وقع فهو مراد له ولكنه عندهم لا يفعل مرادًا لمراد أصلاً؛ لأن الفعل للعلة يستلزم الحاجة، وهذا ضعيف بين الضعف، وأهل الخصوص قالوا مثل هذا الجواب. وطائفة أخرى قالوا: هي على العموم لكن المراد بالعبادة تعبيده لهم، وقهره لهم، ونفوذ قدرته ومشيئته فيهم، وأنه أصارهم إلى ما خلقهم له، من السعادة والشقاوة، هذا جواب زيد بن أسلم وطائفة، وهذا القول الثاني في تفسير الآية. وروى ابن أبي حاتم عن ابن جُرَيْج، عن زيد بن أسلم في قوله: /إلى أن قال: ومن فسر هذه الآية بأن المراد بـ {يَعْبُدُونِ}: هو ما جبلهم عليه، وما قدره عليهم من السعادة والشقاوة، وإن ذلك هو معنى الحديث، فإن هؤلاء جعلوا معني {يَعْبُدُونِ} بمعنى: يستسلمون لمشيئتي وقدرتي، فيكونون مُعَبَّدِينَ مُذَلَّلِين؛كي يجرى عليهم حكمي ومشيئتي لا يخرجون عن قضائي وقدري، فهذا معنى صحيح في نفسه، وإن كانت القدرية تنكره، فبإنكارهم لذلك صاروا من أهل البدع، بل الله خالق كل شىء، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وفي استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامة التي لا يجاوزها برٌ ولا فاجرٌ من شر ما ذرأ وبرأ، وأعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده). فكلماته التامة هي التي كون بها الأشياء كما قال تعالى : ولكن قوله: فهذا ـ ونحوه ـ كثير في القرآن. لم يرد بعبادة الله إلا العبادة التي أمرت بها الرسل، وهي عبادته وحده لا شريك له، والمشركون لا يعبدون الله، بل يعبدون الشيطان وما يدعونه من دون الله، سواء عبدوا الملائكة أو الأنبياء والصالحين، أو التماثيل والأصنام المصنوعة، فهؤلاء المشركون قد عبدوا غير الله ـ تعالي ـ كما أخبر الله بذلك. فكيف يقال: إن جميع الإنس والجن عبدوا الله لكون قدر الله جاريًا عليهم؟ والفرق ظاهر بين عبادتهم إياه التي تحصل بإرادتهم واختيارهم وإخلاصهم الدين له وطاعة رسوله، وبين أن يعبدهم هو وينفذ فيهم مشيئته، وتكون عبادتهم لغيره: للشيطان وللأصنام من المقدور. وهذا يشبه قول من يقول من المتأخرين: أنا كافر برب يعصى، فيجعل كل ما يقع طاعة، كما جعله هؤلاء عبادة لله ـ تعالى ـ لكونهم تحت المشيئة، وكان بعض شيوخهم يقول عن إبليس: إن كان عصى الأمر، فقد أطاع المشيئة ،لكن هؤلاء مباحية، يسقطون الأمر. /وأما زيد بن أسلم، ووهب بن منبه، ونحوهم، فحاشاهم من مثل هذا، فإنهم كانوا من أعظم الناس تعظيمًا للأمر والنهي، والوعد والوعيد ،ولكن قصدوا الرد على المكذبين بالقدر، القائلين: بأنه يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، وهؤلاء حقيقة قولهم: أنه لا يقدر على تعبيدهم، وتصريفهم تحت مشيئته، فأرادوا إبطال قول هؤلاء، ونعم ما أرادوا !لكن الكلام فيما أريد بالآية. وقول أولئك الإباحية يشبه قول من قال: إن العارف إذا شهد المشيئة سقط عنه الملام، وأنه إذا شهد الحكم ـ يعني المشيئة ـ لم يستحسن ولم يستقبح سببه، ونحو هذا من أقوال هؤلاء الذين تشبه أقوالهم أقوال المشركين الذين قالوا: وصاحب هذا القول إنما قاله ليبين ما خلقوا له، وقد قصد هذا طائفة/ فسروا العبادة بأمر واقع عام، وليست هي العبادة المأمور بها على ألسن الرسل، ففي تفسير ابن أبي طلحة المضاف إلى ابن عباس: إلا ليقروا بالعبودية طوعًا وكرهًا، وهذه العبودية كقوله: وكذلك قال بعضهم: إلا ليخضعوا لي ويتذللوا، قالوا: ومعنى العبادة في اللغة: التذلل والانقياد، وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله ـ تعالى ـ متذلل لمشيئته، لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق. وقد ذكر أبو الفرج قول ابن عباس هذا، قال: وبيان هذا قوله: /وقيل: قول رابع: روى ابن أبي حاتم عن زائدة عن السُّدِّي: وقيل: قول خامس: ذكره ابن أبي حاتم عن ابن جُرَيْج، قال: ليعرفون، قال: وروى عن قتادة، وذكره البغوي عن مجاهد. قال: وقال مجاهد: إلا ليعرفون. قال: وهذا قول حسن؛ لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده، ودليله قوله: فهذه الأقوال الأربعة، قول من عرف أن الآية عامة، فأراد أن يفسرها بعبادة تعم الإنس والجن، واعتقد أنه إن فسرها بالعبادة المعروفة، وهي الطاعة لله والطاعة لرسله، لزم أن تكون واقعة منهم، ولم تقع، فأراد أن يفسرها بعبادة واقعة، وظن أنه إذا فسرها بعبادة لم تقع لزمه قول القدرية، وأنه خلقهم لعبادته فعصوه بغير مشيئته وغير قدرته، ففروا من قول القدرية وهم معذورون في هذا الفرار، لكن فسرها بما لم يرد بها، كما يصيب كثير من الناس في الآيات التي يحتج أهل البدع بظاهرها، كاحتجاج الرافضة بقوله: والقول السادس ـ وإن كان أبو الفرج لم يذكر فيها إلا أربعة أقوال ـ وهو الذي عليه جمهور المسلمين: أن الله خلقهم لعبادته وهو فعل ما أمروا به؛ ولهذا يوجد المسلمون قديمًا وحديثًا يحتجون بهذه الآية على هذا/المعنى، حتى في وعظهم وتذكيرهم وحكاياتهم، كما في حكاية إبراهيم بن أدهم: ما لهذا خلقت، ولا بهذا أمرت؛ وفي حديث إسرائيلي: يابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكَفَّلتُ برزقك فلا تتعب، فاطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شىء، وإن فُتَّكَ فاتك كل شىء وأنا أحب إليك من كل شىء. وهذا هو المأثور عن أمير المؤمنين علي بن أبى طالب، وغيره من السلف، فذكروا عن علي بن أبي طالب أنه قال: إلا لآمرهم أن يعبدون، وأدعوهم إلى عبادتي. قالوا: ويؤيده قوله تعالى: ويدل على هذا مثل قوله: وقد قال في القرآن في غير موضع: /ثم للناس على هذا القول قولان: قول أهل السنة المثبتة للقدر، وقول نفاته، فصارت الأقوال في الآية سبعة، وفي الحكمة خمسة. فأما أهل السنة المثبتون للقدر فيقولون: قوله: فالطائفتان أصل غلطهم ظنهم أن ما خلقهم له يشاء وقوعه، وأولئك يقولون: يشاء أن يخلقه، وهؤلاء يقولون: يشاء وقوعه منهم، بمعنى: يأمرهم به، وما عندهم أن له مشيئة في أفعال العباد غير الأمر، وهم يعصون أمره؛ فلهذا قالوا: يكون ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون، كما يقولون: يفعلون ما نهاهم عنه، ويتركون ما أمرهم به، وهذا المعنى صحيح إذا أريد الأمر الشرعي؛ لكن القدرية النفاة لا يقولون: إنه شاء إلا بمعنى أمر، فعندهم ما ليس طاعة من أفعال العباد ما لا/ يشاؤه فإنه لا يخلقه عندهم، وإذا لم يخلقه لم يشأه، فإنه ما شاء أن يخلقه خلقه باتفاق المسلمين. والقدرية لا تنازع في هذا، لا ينازعون في أنه ما شاء أن يفعله هو فعله، وأنه قادر على أن يفعل ما يشاء أن يفعله، لكن عندهم أن أفعال العباد لا تدخل في خلقه، ولا في قدرته، ولا في مشيئته، ولا في مشيئته أن يفعل، لكن المشيئة المتعلقة بها بمعنى الأمر فقط، فيقولون: خلقهم لعبادته أن يفعلوها هم، وقد أمرهم بها، فإذا لم يفعلوها كان ذلك بمنزلة عصيان أمره. وأما المثبتون للقدر فيقولون: إنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، و هو ـ سبحانه ـ خالق كل شىء ومن هنا يتبين معنى الآية، فإن قوله: وكذلك ما خلقهم إلا للعبادة، ثم قد يعبدون وقد لا يعبدون، ومثل هذا كثير في القرآن، يبين أنه فعل ما فعل ليكبروه وليعدلوا، ولا يظلموا، وليعلموا ما هو متصف به، وغيره مما أمر الله به العباد، وأحبه لهم ورضيه منهم، وفيه سعادتهم وكمالهم وصلاحهم وفلاحهم إذا فعلوه، ثم منهم من يفعل ذلك ومنهم من لا يفعله. وهو ـ سبحانه ـ لم يقل: إنه فعل الأول ليفعل هو الثاني، ولا ليفعل بهم الثاني، فلم يذكر أنه خلقهم ليجعلهم هم عابدين، فإن ما فعله من الأسباب لما يفعله هو من الغايات يجب أن يفعله لا محالة، ويمتنع أن يفعل أمرًا ليفعل أمرًا ثانيًا ولا يفعل الأمر الثاني، ولكن ذكر أنه فعل الأول ليفعلوا هم الثاني، فيكونون هم الفاعلين له فيحصل بفعلهم سعادتهم، وما يحبه ويرضاه لهم، فيحصل ما يحبه هو وما يحبونه هم، كما تقدم أن كل ما خلقه وأمر به غايته محبوبة لله ولعباده، وفيه حكمة له، وفيه رحمة لعباده. فهذا الذي خلقهم له لو فعلوه لكان فيه ما يحبه وما يحبونه، ولكن لم يفعلوه فاستحقوا ما يستحقه العاصي المخالف لأمره، التارك فعل ما خلق لأجله من/ عذاب الدنيا والآخرة، وهو ـ سبحانه ـ قد شاء أن تكون العبادة ممن فعلها، فجعلهم عابدين مسلمين بمشيئته وهداه لهم، وتحبيبه إليهم الإيمان، كما قال تعالى: والصنف الثاني لم يشأ هو أن يخلقهم عابدين، وإن كان قد أمرهم بالعبادة، والله سبحانه أعلم.
|