فصل: سئل عن الذنوب الكبائر المذكورة في القرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ وسئل عن الذنوب الكبائر المذكورة في القرآن، والحديث‏.‏ هل لها حد تعرف به ‏؟‏ وهل قول من قال‏:‏ إنها سبع، أو سبعة عشر، صحيح ‏؟‏ أو قول من قال ‏:‏ إنها ما اتفقت فيها الشرائع ـ أعني على تحريمها‏؟‏ ـ أو أنها ما تسد باب المعرفة بالله‏؟‏ أو أنها ما تذهب الأموال والأبدان‏؟‏ أو أنها إنما سميت كبائر بالنسبة والإضافة إلى ما دونها‏؟‏ أو أنها لا تعلم أصلا‏.‏ وأبهمت كليلة القدر‏؟‏ أو ما يحكي بعضهم أنها إلى التسعين أقرب، أو كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، أو أنها ما رتب عليها حد‏.‏ أو ما توعد عليها بالنار‏؟‏‏.‏

فأجاب ‏:‏

الحمد لله رب العالمين، أمثل الأقوال في هذه المسألة القول المأثور عن ابن عباس، وذكره أبو عبيد، وأحمد بن حنبل، وغيرهما وهو‏:‏ أن الصغيرة ما دون الحدين‏:‏ حد الدنيا، وحد الآخرة‏.‏ وهو معنى قول من قال‏:‏ ما ليس فيها حد في الدنيا‏.‏ وهو معنى قول القائل‏:‏ كل ذنب ختم بلعنة، أو غضب، أو نار، فهو من الكبائر ‏.‏

ومعنى قول القائل‏:‏ وليس فيها حد في الدنيا، ولا وعيد في /الآخرة، أي ‏[‏وعيد خاص‏]‏ كالوعيد بالنار، والغضب، واللعنة، وذلك لأن الوعيد الخاص في الآخرة، كالعقوبة الخاصة في الدنيا، فكما أنه يفرق في العقوبات المشروعة للناس بين العقوبات المقدرة بالقطع، والقتل، وجلد مائة، أو ثمانين،وبين العقوبات التي ليست بمقدرة‏:‏ وهي ‏[‏التعزير‏]‏ فكذلك يفرق في العقوبات التي يعزر الله بها العباد ـ في غير أمر العباد بها ـ بين العقوبات المقدرة‏:‏ كالغضب، واللعنة، والنار، وبين العقوبات المطلقة‏.‏

وهذا ‏[‏الضابط‏]‏ يسلم من القوادح الواردة على غيره، فإنه يدخل كل ما ثبت في النص أنه كبيرة‏:‏ كالشرك، والقتل، والزنا، والسحر، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وغير ذلك من الكبائر التي فيها عقوبات مقدرة مشروعة، وكالفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وشهادة الزور؛ فإن هذه الذنوب وأمثالها فيها وعيد خاص، كما قال في الفرار من الزحف‏:‏ ‏{‏وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏16‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا‏}‏‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏، وقال‏:‏‏{‏وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ‏}‏‏[‏الرعد‏:‏25‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ‏}‏‏[‏محمد‏:‏22، 23‏]‏، وقال تعالى ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏[‏آل عمران‏:‏77‏]‏ ‏.‏

وكذلك كل ذنب توعد صاحبه بأنه لا يدخل الجنة، ولا يشم رائحة الجنة، وقيل فيه‏:‏ من فعله فليس منا، وأن صاحبه آثم، فهذه كلها من الكبائر‏.‏ كقوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ لا يدخل الجنة قاطع‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏ من غشنا فليس منا‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏من حمل علينا السلاح فليس منا‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏لا يزني الزاني حين يزنى، وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن‏)‏‏.‏

وذلك لأن نفي الإيمان، وكونه ليس من المؤمنين، ليس المراد به ما يقوله المرجئة‏:‏ أنه ليس من خيارنا، فإنه لو ترك ذلك لم يلزم أن يكون من خيارهم، وليس المراد به ما يقوله الخوارج‏:‏ إنه صار كافرًا‏.‏ ولا ما يقوله المعتزلة ‏:‏ من أنه لم يبق معه من الإيمان شىء، بل هو / مستحق للخلود في النار لا يخرج منها، فهذه كلها أقوال باطلة، قد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع‏.‏

ولكن المؤمن المطلق في باب الوعد والوعيد،وهو المستحق لدخول الجنة بلا عقاب، هو المؤدي للفرائض،المجتنب المحارم،وهؤلاء هم المؤمنون عند الإطلاق،فمن فعل هذه الكبائر لم يكن من هؤلاء المؤمنين،إذ هو متعرض للعقوبة على تلك الكبيرة‏.‏وهذا معنى قول من قال‏:‏أراد به نفي حقيقة الإيمان،أو نفي كمال الإيمان،فإنهم لم يريدوا نفي الكمال المستحب،فإن ترك الكمال المستحب لا يوجب الذم والوعيد، والفقهاء يقولون‏:‏الغسل ينقسم إلى‏:‏كامل،ومجزئ‏.‏ثم من عدل عن الغسل الكامل إلى المجزئ لم يكن مذمومًا‏.‏

فمن أراد بقوله‏:‏ ‏[‏نفي كمال الإيمان‏]‏ أنه نفي الكمال المستحب، فقد غلط، وهو يشبه قول المرجئة، ولكن يقتضي نفي الكمال الواجب‏.‏ وهذا مطرد في سائر ما نفاه الله ورسوله؛ مثل قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا‏}‏‏[‏الأنفال‏:‏2ـ4‏]‏ ومثل الحديث المأثور‏:‏ ‏(‏لاإيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له‏)‏، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا صلاة إلا بأم /القرآن‏)‏ وأمثال ذلك، فإنه لاينفي مسمى الاسم إلا لانتفاء بعض ما يجب في ذلك، لا لانتفاء بعض مستحباته، فيفيد هذا الكلام أن من فعل ذلك فقد ترك الواجب الذي لا يتم الإيمان الواجب إلا به، وإن كان معه بعض الإيمان‏.‏ فإن الإيمان يتبعض ويتفاضل‏.‏ كما قال صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان‏)‏‏.‏

والمقصود هنا أن نفي الإيمان والجنة، أو كونه من المؤمنين، لا يكون إلا عن كبيرة‏.‏ أما الصغائر فلا تنفي هذا الاسم والحكم عن صاحبها بمجردها، فيعرف أن هذا النفي لا يكون لترك مستحب، ولا لفعل صغيرة، بل لفعل كبيرة‏.‏

وإنما قلنا‏:‏ إن هذا الضابط أولى من سائر تلك الضوابط المذكورة لوجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه المأثور عن السلف‏.‏ بخلاف تلك الضوابط، فإنها لا تعرف عن أحد من الصحابة والتابعين والأئمة، وإنما قالها بعض من تكلم في شىء من الكلام، أو التصوف بغير دليل شرعي، وأما من قال من السلف‏:‏ إنها إلى السبعين أقرب منها إلى السبع، فهذا لا يخالف ما ذكرناه‏.‏ وسنتكلم عليها إن شاء الله واحدًا واحدًا‏.‏

/الثاني‏:‏ أن الله قال‏:‏ ‏{‏إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏31‏]‏، فقد وعد مجتنب الكبائر بتكفير السيئات، واستحقاق الوعد الكريم، وكل من وعد بغضب الله أو لعنته، أو نار أو حرمان جنة، أو ما يقتضي ذلك، فإنه خارج عن هذا الوعد، فلا يكون من مجتنبي الكبائر، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد، لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر؛ إذ لو كان كذلك لم يكن له ذنب يستحق أن يعاقب عليه، والمستحق أن يقام عليه الحد له ذنب يستحق العقوبة عليه‏.‏

الثالث‏:‏ أن هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكره الله ورسوله في الذنوب، فهو حد يتلقى من خطاب الشارع، وماسوى ذلك ليس متلقى من كلام الله ورسوله، بل هو قول رأي القائل وذوقه من غير دليل شرعي، والرأي والذوق بدون دليل شرعي لا يجوز‏.‏

الرابع‏:‏ أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر، وأما تلك الأمور فلا يمكن الفرق بها بين الكبائر والصغائر، لأن تلك الصفات لادليل عليها ،لأن الفرق بين ما اتفقت فيه الشرائع واختلفت لا يعلم إن لم يمكن وجود عالم بتلك الشرائع على وجهها،وهذا غير معلوم لنا‏.‏

/وكذلك ‏[‏ما يسد باب المعرفة‏]‏ هو من الأمور النسبية والإضافية، فقد يسد باب المعرفة عن زيد ما لا يسد عن عمرو، وليس لذلك حد محدود‏.‏

الخامس‏:‏ أن تلك الأقوال فاسدة‏.‏ فقول من قال‏:‏ إنها ما اتفقت الشرائع على تحريمه، دون ما اختلفت فيه، يوجب أن تكون الحبة من مال اليتيم، ومن السرقة، والخيانة، والكذبة الواحدة، وبعض الإساءات الخفية، ونحو ذلك كبيرة‏.‏ وأن يكون الفرار من الزحف ليس من الكبائر، إذ الجهاد لم يجب في كل شريعة، وكذلك يقتضي أن يكون التزوج بالمحرمات بالرضاعة والصهر وغيرهما ليس من الكبائر، لأنه مما لم تتفق عليه الشرائع، وكذلك إمساك المرأة بعد الطلاق الثلاث، ووطؤها بعد ذلك‏.‏ مع اعتقاد التحريم‏.‏

وكذلك من قال‏:‏ إنها ما تسد باب المعرفة، أو ذهاب النفوس والأموال، يوجب أن يكون القليل من الغضب والخيانة كبيرة، وأن يكون عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، وشرب الخمر، وأكل الميتة، ولحم الخنزير، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، ونحو ذلك ليس من الكبائر‏.‏

ومن قال‏:‏ إنها سميت كبائر بالنسبة إلى ما دونها، وأن ما عصى الله / به فهو كبيرة، فإنه يوجب ألا تكون الذنوب في نفسها تنقسم إلى كبائر وصغائر، وهذا خلاف القرآن‏.‏ فإن الله قال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ‏}‏‏[‏النجم‏:‏32‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ‏}‏‏[‏الشورى‏:‏37‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ‏}‏‏[‏النساء‏:‏31‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏49‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏53‏]‏ والأحاديث كثيرة في الذنوب الكبائر‏.‏

ومن قال‏:‏ هي سبعة عشر، فهو قول بلا دليل‏.‏

ومن قال ‏:‏ إنها مبهمة، أو غير معلومة، فإنما أخبر عن نفسه أنه لا يعلمها‏.‏

ومن قال‏:‏ إنه ما توعد عليه بالنار، قد يقال‏:‏ إن فيه تقصيرًا إذ الوعيد قد يكون بالنار، وقد يكون بغيرها، وقد يقال‏:‏ إن كل وعيد فلابد أن يستلزم الوعيد بالنار‏.‏

وأما من قال ‏:‏إنها كل ذنب فيه وعيد، فهذا يندرج فيما ذكره السلف ؛فإن كل ذنب فيه حد في الدنيا ففيه وعيد من غير عكس، فإن الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وقذف المحصنات، ونحو ذلك فيها وعيد‏.‏ كمن قال‏:‏ إن الكبيرة ما فيها وعيد، والله أعلم‏.‏

/ سئل ـ رضي الله عنه ـ عن شرب الخمر وفعل الفاحشة، أيهما أعظم إثمًا عند الله‏؟‏ أم هما مستويان‏؟‏ وما هي الكبائر التي قال عز وجل فيها‏:‏ ‏{‏إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا‏}‏‏[‏النساء‏:‏31‏]‏، فما هي هذه الكبائر، وما هي السيئات‏؟‏

فأجاب ـ رضي الله عنه ‏:‏

الحمد لله، الكبائر‏:‏ هي ما فيها حد في الدنيا، أو في الآخرة‏:‏ كالزنا، والسرقة، والقذف، التي فيها حدود في الدنيا، وكالذنوب التي فيها حدود في الآخرة، وهو الوعيد الخاص، مثل الذنب الذي فيه غضب الله، ولعنته، أو جهنم، ومنع الجنة، كالسحر، واليمين الغموس، والفرار من الزحف، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور،وشرب الخمر، ونحو ذلك‏.‏ هكذا روى عن ابن عباس، وسفيان بن عيينة، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من العلماء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏32‏]‏، وقال تعالى ‏:‏‏{‏الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ‏}‏ ‏[‏الشورى 37‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏49‏]‏، وقال تعالى ‏:‏‏{‏وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏53‏]‏‏.‏

و أكبر الكبائر ‏:‏ الإشراك بالله، ثم قتل النفس، ثم الزنا، كما قال تعالى ‏:‏‏{‏وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُون‏}‏ الآية ‏[‏الفرقان‏:‏68‏]‏‏.‏

والزنا أعظم من شرب الخمر، إذا استويا في القدر، مثل من يزني مرة، ويشرب الخمر مرة، فأما إذا قدر أن رجلا زنا مرة، وآخر مدمن على شرب الخمر، فهذا قد يكون أعظم من ذاك‏.‏ كما أنه لو زنا مرة وتاب كان خيرًا من المصر على شرب الخمر، وكذلك شارب الخمر إذا دعا غيره فيكون عليه إثم شربه وعليه قسط من إثم الذين دعاهم إلى الشرب، وكذلك إذا اقترن بالشرب سماع المزامير، والشرب على بعض الصور المحرمة، ونحو ذلك فهذا مما يتغلظ فيه الشرب‏.‏

والذنب يتغلظ بتكراره، و بالإصرار عليه، وبما يقترن به من سيئات أخر، وكذلك لو قدرنا أن الزاني زنا وهو خائف من الله، وجل من عذابه، والشارب يشرب لاهيًا غافلا لا يراقب الله، كان ذنبه أعظم من هذا الوجه، فقد يقترن بالذنوب ما يخففها، وقد يقترن بها / ما يغلظها‏.‏ كما أن الحسنات قد يقترن بها ما يعظمها، وقد يقترن بها ما يصغرها، فكما أن الحسنات أجناس متفاضلة، وقد يكون المفضول في كثير من المواضع أفضل مما جنسه فاضل‏.‏ فكذلك السيئات‏.‏

فالصلاة أفضل من القراءة، والقراءة أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء؛ مع أن القراءة والذكر والدعاء بعد الفجر وبعد العصر أفضل من تحري صلاة التطوع في ذلك، وكذلك التسبيح في الركوع والسجود أفضل من قراءة القرآن فيه، وقد يكون بعض الناس انتفاعه بالذكر والدعاء أعظم من انتفاعه بالقراءة، فيكون أفضل في حقه، فهكذا السيئات، وإن كان القتل أعظم من الزنا، والزنا أعظم من الشرب، فقد يقترن بالشرب من المغلظات ما يصير به أغلظ من بعض ضرر الزنا‏.‏

وإذا عرف أن الحسنات والسيئات تتفاضل بالأجناس تارة، وتتفاضل بأحوال أخرى تعرض لها ـ تبين أن هذا قد يكون أعظم من هذا، وهذا أعظم من هذا، والعبد قد يأتي بالحسنة بنية وصدق وإخلاص تكون أعظم من أضعافها‏.‏ كما في حديث صاحب البطاقة الذي رجحت بطاقته التي فيها‏:‏ ‏[‏لا إله إلا الله‏]‏ بالسجلات التي فيها ذنوبه، وكما في حديث البغي التي سقت كلبًا بموقها، فغفر الله لها‏.‏ وكذلك في السيئات‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ سئل الشيخ ـ رحمه الله ـ عن رجل مدمن على المحرمات، وهو مواظب على الصلوات الخمس، ويصلي على محمد مائة مرة كل يوم، ويقول ‏:‏ سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، كل يوم مائة مرة، فهل يُكَفَّر ذلك بالصلاة والاستغفار‏؟‏

فأجاب‏:‏

قال الله تعالى ‏:‏‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏7، 8 ‏]‏، فمن كان مؤمنا وعمل عملاً صالحًا لوجه الله تعالى، فإن الله لايظلمه، بل يثيبه عليه‏.‏

وأما ما يفعله من المحرم اليسير فيستحق عليه العقوبة، و يرجى له من الله التوبة‏.‏ كما قال الله تعالى ‏:‏‏{‏وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏102‏]‏ ،وإن مات ولم يتب فهذا أمره إلى الله‏.‏ هو أعلم بمقدار حسناته وسيئاته‏.‏ لا يشهد له بجنة ولا نار ،بخلاف الخوارج والمعتزلة فإنهم يقولون‏:‏ إنه من فعل كبيرة أحبطت جميع حسناته، وأهل السنة والجماعة لا يقولون بهذا الإحباط، بل أهل الكبائر معهم حسنات وسيئات، وأمرهم إلى الله تعالى ‏.‏

/وقوله تعالى ‏:‏‏{‏إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ‏}‏‏[‏المائدة‏:‏7‏]‏ أي من اتقاه في ذلك العمل، بأن يكون عملاً صالحًا خالًصا لوجه الله تعالى ،وأن يكون موافقًا للسنة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن كَانَ يَرْجُو

لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا‏}‏‏[‏الكهف‏:‏110‏]‏‏.‏وكان عمر بن الخطاب يقول في دعائه ‏:‏اللهم اجعل عملي كله صالحًا واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا‏.‏ وأهل الوعيد يقولون ‏:‏ لا يتقبل العمل إلا ممن اتقاه بترك جميع الكبائر‏.‏ وهذا خلاف ما جاء به الكتاب والسنة في ‏[‏قصة حمار‏]‏ الذي كان يشرب الخمر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إنه يحب الله ورسوله‏)‏، وكما في أحاديث الشفاعة، وإخراج أهل الكبائر من النار‏.‏ حتى يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان‏.‏ فقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ الآية ‏[‏فاطر‏:‏32‏]‏ ‏.‏

ومع هذا فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن‏)‏‏.‏ وقال ‏:‏ ‏(‏من شرب الخمر في الدنيا، ولم يتب منها حرمها في الآخرة‏)‏، وقال‏:‏ ‏"‏لعن الله الخمر، وعاصرها ومعتصرها، وبائعها، ومشتريها، وحاملها، والمحمولة إليه، وشاربها،وساقيها، وآكل ثمنها‏)‏‏.‏

/وقال ـ أيضًا ـ شيخ الإسلام ـ رحمه الله‏:‏

 

فصــل

وكل من تاب من أي ذنب كان فإن الله يتوب عليه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ‏}‏‏[‏الزمر‏:‏53-55‏]‏، فقد أخبر الله في هذه الآية أنه يغفر الذنوب؛ أي لمن تاب‏.‏

وقد قال في الأخرى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏116‏]‏، وهذا في حق من لم يتب، فالشرك لا يغفره الله،وما دون الشرك أمره إلى الله، إن شاء عاقب عليه، وإن شاء عفا عنه‏.‏

ومن الشرك أن يدعو العبد غير الله، كمن يستغيث في المخاوف / والأمراض والفاقات بالأموات، والغائبين‏.‏ فيقول‏:‏ يا سيدي الشيخ فلان، لشيخ ميت أو غائب، فيستغيث به، ويستوصيه، ويطلب منه ما يطلب من الله من النصر والعافية فإن هذا من الشرك الذي حرمه الله ورسوله باتفاق المسلمين‏.‏

وهؤلاء المشركون قد يتمثل لأحدهم صورة الشيخ الذي استغاث به، فيظن أنه الشيخ، أو ملك جاء على صورته، وإنما هو شيطان تمثل له ليضله ويغويه لما دعا غير الله، كما كان نصيب المشركين الذين يعبدون الأصنام تخاطبهم الشياطين، وتتراءى لهم، وتخبرهم ببعض الأمور الغائبة، وإن كان فيما يخبرون به من الكذب ما يبين أنهم شياطين‏.‏ قال تعالى‏:‏‏{‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ‏}‏‏[‏الشعراء‏:‏221، 222‏]‏، وهؤلاء كثيرون في المشركين‏:‏ من الهند، والترك، والحبشة، وفي المتشبهين بهم من الضلال المنتسبين إلى الإسلام؛ كأهل الإشارات الذين يظهرون إشارات الدم، والزعفران، واللاذن، ويدعون أنهم يغيرون التراب، أو غيره‏.‏ فيجعلونه كذلك، ومنهم من يدخل النار، ويأكل الحيات، ومنهم من يصرخ في بعض الناس فيمرض، أو يموت‏.‏

وهذه الأحوال تعرض لهم عند فعل ما يأمر به الشيطان، مثل السماع البدعي؛ سماع المكاء، والتصدية، وغير ذلك، فإن الذين / يتخذون ذلك قربة ودينا تتحرك به قلوبهم، ويحصل لهم عنده من الوجل والصياح ما تنزل معه الشياطين،كما يدخل الشيطان في بدن المصروع، ولهذا يزبد أحدهم كإزباد المصروع، ويصيح كصياحه وذلك صياح الشياطين على ألسنتهم، ولهذا لا يدري أحد ما جرى منه حتى يفيق،ويتكلم الشيطان على لسان أحدهم بكلام لا يعرفه الإنسان، ويدخل أحدهم النار، وقد لبسه الشيطان ويحصل ذلك لقوم من النصارى بالمغرب، وغيرهم‏.‏ تلبسهم الشياطين، فيحصل لهم مثل ذلك ‏.‏

فهؤلاء المبتدعون المخالفون للكتاب والسنة أحوالهم ليست من كرامات الصالحين، فإن كرامات الصالحين إنما تكون لأولياء الله المتقين، الذين قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏يونس ‏:‏62، 63‏]‏، وهم الذين يتقربون إلى الله بالفرائض التي فرضها عليهم، ثم بالنوافل التي ندبهم إليها، كما روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يقول الله‏:‏ من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شىء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، / يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه‏)‏‏.‏

ولهذا قال أهل العلم والدين ـ كأبي يزيد البسطامي وغيره ‏:‏

لو رأيتم الرجل يطير في الهواء، أو يمشي على الماء، فلا تغتروا به حتى تنظروا وقوفه عند الأمر والنهي، وقال الشافعي‏:‏ لو رأيتم صاحب بدعة يطير في الهواء، فلا تغتروا به‏.‏

فأولياء الله المتقون هم المتبعون لكتاب الله، وسنة رسوله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏[‏آل عمران‏:‏31‏]‏، وطريقهم طريق أنبياء الله المرسلين، وأولياء الله المتقين، وحزب الله المفلحين‏.‏

وأما أهل الشرك والبدع والفجور فأحوالهم من جنس أحوال ‏[‏مسيلمة الكذاب‏]‏، و‏[‏الأسود العنسي‏]‏ اللذين ادعيا النبوة في آخر أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لكل منهما شياطين تخبره وتعينه‏.‏

وكان ‏[‏العنسي‏]‏ قد استولى على أرض اليمن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قتله الله على أيدي عباده المؤمنين، وكان قد طلب من أبي مسلم الخولاني أن يتابعه فامتنع، فألقاه في النار فجعلها الله /عليه بردًا وسلامًا،كما جرى لإبراهيم الخليل صلوات الله عليه، وذلك مع صلاته وذكره ودعائه لله مع سكينة ووقار، وهؤلاء أصحاب الأحوال الشيطانية، لا تصير النار عليهم بردًا وسلامًا‏.‏ بل قد يطفونها كما يطفيها الناس، وذلك في حال اختلاط عقولهم، وهيج شياطينهم، وارتفاع أصواتهم، هذا إن كان لأحدهم حال شيطاني‏.‏

وإلا فكثير منهم لا يحصل له ذلك، بل يدخل في نوع من المكر والمحال فيتخذ حجر الطلق، أو دهن الضفادع، وأنواعًا من الأدوية كما يصنعون من جنس ما تصنعه المشعبذون، إخفاء اللاذن، والسكر في يد أحدهم، فإنهم نوعان‏:‏ خاصتهم أهل حال شيطاني، وعامتهم أهل محال بهتاني‏.‏

وهؤلاء لا يعطى أحدهم من الزكاة حتى يتوب، ويلتزم ما بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة، ويكون مع ذلك من مستحقي الزكاة المذكورين في قوله تعالى ‏:‏‏{‏إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏60‏]‏‏.‏

فأما من كان غنيًا ليس من هذه الأصناف، فلا يعطى من الزكاة، لا سيما إذا كان مع غناه من شيوخ الضلال، مثل شيوخ المضلين الأغنياء / الذين ليسوا من الأصناف الثمانية، فإن هؤلاء لا يجوز أن يعطوا من الزكاة بإجماع المسلمين، وهؤلاء إذا قالوا للإنسان‏:‏ تعطينا وإلا فإني أنلك في نفسك، فإنه قد تعينهم شياطين على إضرار بعض الناس بقضاء الله وقدره، لكن هذا يكون لمن هو خارج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، مثل أهل الفجور والبدع الذين لا يصلون الصلوات الخمس، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، فهؤلاء قد تسلط عليهم بعض هؤلاء بذنوبهم وخطاياهم‏.‏

وأما الذين يفعلون ما أمر الله به ورسوله من الصلوات الخمس، وغيرها، ويخلصون دينهم لله، فلا يدعون إلا الله، ولا يعبدون غيره ولاينذرون إلا لله، ويحرمون ما حرم الله ورسوله، فهؤلاء جند الله الغالبون، وحزب الله المفلحون، فإنه يؤيدهم وينصرهم‏.‏ وهؤلاء يهزمون شياطين أولئك الضالين، فلا يستطيعون مع شهود هؤلاء، واستغاثتهم بالله، أن يفعلوا شيئًا من تلك الأحوال الشيطانية، بل تهرب منهم تلك الشياطين‏.‏ وهؤلاء معترفون بذلك، يقولون‏:‏ أحوالنا ماتنفذ قدام أهل الكتاب والسنة، وإنما تنفذ قدام من لا يكون كذلك من الأعراب والترك والعامة وغيرهم‏.‏

فهؤلاء من أهل الضلال والغي الذين يجب نهيهم، واستتابتهم، ومنعهم من طاعة الشيطان والشرك، والبدع، والفجور، وأمرهم بما / أمر الله به ورسوله، واتباع الكتاب والسنة‏.‏

ولا يجوز للمؤمن أن يخافهم فإن الله تعالى يقول في كتابه‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏‏[‏آل عمران‏:‏173‏:‏ 175‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏150‏:‏ 152‏]‏‏.‏

/وقال ـ أيضا ـ شيخ الإسلام ـ رحمه الله‏:‏

رب يسر وأعن يا كريم ‏.‏

الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا‏.‏ من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ‏.‏صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما‏.‏

 

فصــل

في أن التوبة والاستغفار يكون من ترك الواجبات وفعل المحرمات

والأول‏:‏ يخفى على كثير من الناس‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ‏}‏‏[‏غافر‏:‏55‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ ‏[‏محمد ‏:‏19‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏2‏]‏، / وقال‏:‏‏{‏أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏‏[‏هود‏:‏2، 3‏]‏، ومثل هذا في القرآن كثير‏.‏

فنقول ‏:‏ التوبة والاستغفار يكون من ترك مأمور، ومن فعل محظور، فإن كلاهما من السيئات والخطايا والذنوب، وترك ‏[‏الإيمان‏]‏ و‏[‏التوحيد‏]‏ و‏[‏الفرائض‏]‏ التي فرضها الله تعالى على القلب والبدن من الذنوب بلا ريب، عند كل أحد، بل هي أعظم الصنفين‏.‏ كما قد بسطناه فيما كتبناه من ‏[‏القواعد‏]‏ قبل ذهابي إلى مصر‏.‏

فإن جنس ترك الواجبات أعظم من جنس فعل المحرمات، إذ قد يدخل في ذلك ترك الإيمان والتوحيد، ومن أتى بالإيمان والتوحيد لم يخلد في النار،ولو فعل ما فعل‏.‏ ومن لم يأت بالإيمان والتوحيد كان مخلدًا ولو كانت ذنوبه من جهة الأفعال قليلة‏:‏كالزهاد والعباد من المشركين، وأهل الكتاب كعباد مشركي الهند، وعباد النصارى،وغيرهم،فإنهم لا يقتلون، ولا يزنون، ولا يظلمون الناس،لكن نفس الإيمان والتوحيد الواجب تركوه‏.‏

ولكن يقال‏:‏ ترك الإيمان والتوحيد الواجب ،إنما يكون مع الاشتغال بضده، وضده إذا كان كفرًا فهم يعاقبون على الكفر، وهو / من باب المنهي عنه، وإن كان ضده من جنس المباحات كالاشتغال بأهواء النفس ولذاتها، من الأكل والشرب، والرئاسة وغير ذلك عن الإيمان الواجب، فالعقوبة هنا لأجل ترك الإيمان، لا لأجل ترك هذا الجنس‏.‏

وقد يقال‏:‏ كل من ترك الإيمان والتوحيد فلا يتركه إلا إلى كفر وشرك، فإن النفس لابد لها من إله تعبده، فمن لم يعبد الرحمن عبد الشيطان، فيقال‏:‏عبادة الشيطان جنس عام، وهذا إذا أمره أن يشتغل بما هو مانع له من الإيمان والتوحيد، يقال‏:‏ عبده‏.‏كما أن من أطاع الشيطان فقد عبده،ولكن عبادة دون عبادة‏.‏

والناس ‏[‏نوعان‏]‏ طلاب دين، وطلاب دنيا، فهو يأمر طلاب الدين بالشرك والبدعة، كعباد المشركين، وأهل الكتاب، ويأمر طلاب الدنيا بالشهوات البدنية، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم، وفروجكم، ومضلات الفتن‏)‏‏.‏

ولهذا قال الحسن البصري لما ذكر الحديث ‏:‏ لكل عامل شرة، ولكل شرة فترة ،فإن صاحبها سدد وقارب فارجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه، فقالوا ‏:‏ أنت إذا مررت في السوق أشار إليك / الناس‏.‏ فقال‏:‏ إنه لم يعن هذا،وإنما أراد المبتدع في دينه، والفاجر في دنياه‏.‏

وقد بسطت الكلام على ‏[‏النوعين‏]‏ في مواضع، كما ذكرنا في ‏[‏اقتضاء الصراط المستقيم‏]‏ الكلام على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏69‏]‏، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏

فإن ترك الواجب وفعل المحرم متلازمان؛ ولهذا كان من فعل ما نهى عنه يقال‏:‏ إنه عصى الأمر‏.‏ ولو قال لها‏:‏ إن عصيتي أمري فأنت طالق‏.‏ فنهاها فعصته، ففيه وجهان‏:‏

أصحهما أنها تطلق، وبعض الفقهاء يعلل ذلك بأن هذا يعد في العرف عاصيًا، ويجعلون هذا في الأصل نوعين‏.‏

والتحقيق أن كل نهي ففيه طلب واستدعاء لما يقصده الناهي، فهو أمر، فالأمر يتناول هذا وهذا‏.‏ ومنه قول الخضر لموسى ‏:‏‏{‏إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا‏}‏ وقال له‏:‏ ‏{‏ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا‏}‏‏[‏الكهف‏:‏67-70‏]‏‏.‏ فقوله ‏:‏ /‏{‏فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا‏}‏، قد تناوله قوله‏:‏ ‏{‏وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا‏}‏‏.‏ ومنه قول موسى لأخيه‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي‏}‏‏[‏طه‏:‏92، 93‏]‏، وموسى قال له ‏:‏ ‏{‏اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏142‏]‏ نهى، وهو لامه على أنه لم يتبعه، وقال‏:‏ ‏{‏أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي‏}‏‏؟‏ وعباد العجل كانوا مفسدين‏.‏ وقد جعل هذا كله أمرًا‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏6‏]‏، فهم لا يعصونه إذا نهاهم، وقوله عن الرسول‏:‏ ‏{‏فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏[‏النور‏:‏63‏]‏، فمن ركب ما نهى عنه فقد خالف أمره، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى‏}‏‏[‏طه‏:‏121‏]‏، وإنما كان فعلا منهيًا عنه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ‏}‏‏[‏الأحزاب‏:‏36‏]‏ ،هو يتناول ما نهى عنه، أقوى مما يتناول ما أمر به، فإنه قال في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏)‏‏.‏

وقوله ‏:‏‏{‏يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ‏}‏‏[‏النساء‏:‏42‏]‏، فالمعصية مخالفة الأمر، ومخالف النهي عاص، فإنه مخالف الأمر، وفاعل المحظور قد يكون أظهر معصية من تارك المأمور‏.‏

/وبالجملة، فهما متلازمان‏.‏ كل من أمر بشىء فقد نهى عن فعل ضده، ومن نهى عن فعل فقد أمر بفعل ضده، كما بسط في موضعه، ولكن لفظ ‏[‏الأمر‏]‏ يعم النوعين، واللفظ العام قد يخص أحد نوعيه باسم، ويبقى الاسم العام للنوع الآخر، فلفظ الأمر عام لكن خصوا أحد النوعين بلفظ النهي، فإذا قرن النهي بالأمر كان المراد به أحد النوعين، لا العموم‏.‏

 

فصــل

والمقصود أن الاستغفار والتوبة يكونان من كلا النوعين، وأيضًا فالاستغفار والتوبة مما فعله وتركه، في حال الجهل قبل أن يعلم أن هذا قبيح من السيئات، وقبل أن يرسل إليه رسول، وقبل أن تقوم عليه الحجة، فإنه سبحانه قال‏:‏‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏15‏]‏‏.‏

وقد قال طائفة من أهل الكلام والرأي ‏:‏ إن هذا في الواجبات الشرعية غير العقلية‏.‏ كما يقوله من يقوله من المعتزلة وغيرهم‏:‏ من أصحاب أبي حنيفة، وغيرهم‏:‏ مثل أبي الخطاب ‏[‏هو محفوظ بن أحمد بن حسن بن حسن العراقي، الكلواذاني، ثم البغدادي الأزجي، الشيخ الإمام، العلامة الورع، شيخ الحنابلة‏.‏ تلميذ القاضي أبي يعلى الفراء‏.‏ ولد في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة ،قال السلفي‏:‏ هو ثقة رضي، من أصحاب أحمد، وقال غيره ‏:‏كان مفتيًا صالحًا، عابدا ورعًا، حسن العشرة،له نظم رائق، وله كتاب ‏[‏الهداية‏]‏‏.‏ قيل عنه‏:‏ إنه كان من محاسن العلماء، خيِّرًا صادقًا، حسن الخلق ،حلو النادرة من أذكياء الرجال، روى الكثير، وطلب الحديث وكتبه، ولابن كليب منه إجازة‏.‏ درس الفقه على أبي يعلى، وقرأ الفرائض على الوفي، وصار إمام وقته، وشيخ عصره، وصنف في المذهب والأصول والخلاف والشعر الجيد‏.‏ توفى أبو الخطاب في الثالث والعشرين من جمادي الآخرة سنة عشر وخمسمائة‏.‏ ‏[‏سير أعلام النبلاء‏:‏19/348‏:‏ 350‏]‏‏.‏ وغيره، على أن الآية عامة‏:‏ لا يعذب الله أحدًا إلا بعد رسول‏.‏

/وفيهما دليل على أنه لا يعذب إلا بذنب،خلافًا لما يقوله‏:‏ ‏[‏المجبرة‏]‏ أتباع جهم ‏:‏ أنه تعالي يعذب بلا ذنب، وقد تبعه طائفة تنسب إلى السنة‏:‏ كالأشعري وغيره، وهو قول القاضي أبي يعلى وغيره، وقالوا‏:‏ إن الله يجوز أن يعذب الأطفال في الآخرة عذابًا لا نهاية له من غير ذنب فعلوه، وهؤلاء يحتجون بالآية على إبطال قول من يقول‏:‏ إن العقل يوجب عذاب من لم يفعل،والآية حجة عليهم أيضًا حيث يجوزون العذاب بلا ذنب، فهي حجة على الطائفتين‏.‏

ولها نظائر في القرآن كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِك الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا‏}‏‏[‏القصص‏:‏59‏]‏، وقوله تعالى ‏:‏‏{‏لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏165‏]‏ وقوله ‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ‏}‏‏[‏الملك ‏:‏8، 9‏]‏‏.‏ وما فعلوه قبل مجىء الرسل كان سيئًا وقبيحًا وشرّا، لكن لا تقوم عليهم الحجة إلا بالرسول‏.‏ هذا قول الجمهور‏.‏

وقيل ‏:‏ إنه لا يكون قبيحًا إلا بالنهي، وهوقول من لا يثبت حسنا ولاقبيحًا إلا بالأمر والنهي‏.‏ كقول جهم والأشعري ومن تابعه من المنتسبين إلى السنة‏.‏ وأصحاب مالك والشافعي وأحمد‏:‏ كالقاضي أبي يعلى، وأبي الوليد الباجي، وأبي المعالي الجويني وغيرهم، والجمهور من السلف والخلف على أن ما كانوا فيه قبل / مجيء الرسول من الشرك والجاهلية شيئًا قبيحًا، وكان شرّا‏.‏ لكن لا يستحقون العذاب إلا بعد مجىء الرسول؛ ولهذا كان للناس في الشرك والظلم والكذب والفواحش ونحو ذلك ثلاثة أقوال‏:‏ قيل‏:‏ إن قبحهما معلوم بالعقل، وأنهم يستحقون العذاب على ذلك في الآخرة، وإن لم يأتهم الرسول،كما يقوله المعتزلة، وكثير من أصحاب أبي حنيفة‏.‏ وحكوه عن أبي حنيفة نفسه، وهو قول أبي الخطاب، وغيره‏.‏

و قيل‏:‏ لا قبح، ولا حسن، ولا شر فيهما قبل الخطاب، وإنما القبيح ما قيل ‏:‏ فيه لا تفعل، والحسن ما قيل ‏:‏ فيه افعل، أو ما أذن في فعله، كما تقوله الأشعرية، ومن وافقهم، من الطوائف الثلاثة‏.‏

وقيل‏:‏ إن ذلك سيئ، وشر، وقبيح، قبل مجيء الرسول؛ لكن العقوبة إنما تستحق بمجيء الرسول‏.‏ وعلى هذا عامة السلف، وأكثر المسلمين، وعليه يدل الكتاب والسنة، فإن فيهما بيان أن ما عليه الكفار هو شر وقبيح، وسيئ قبل الرسل، وإن كانوا لايستحقون العقوبة إلا بالرسول‏.‏ وفي الصحيح أن حذيقة قال‏:‏ يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها‏)‏‏.‏

 

فصــل

وقد أخبر الله تعالى عن قبح أعمال الكفار قبل أن يأتيهم الرسول، كقوله لموسى‏:‏ ‏{‏اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏17-19‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 4ـ6‏]‏‏.‏ فهذا خبر عن حاله قبل أن يولد موسى، وحين كان صغيرًا قبل أن يأتيه برسالة، إنه كان طاغيًا مفسدًا‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏37-39‏]‏‏.‏ وهو فرعون، فهو إذ ذاك عدو لله، ولم يكن جاءته الرسالة بعد‏.‏

/ فصــل

وأيضا أمر الله الناس أن يتوبوا ويستغفروا مما فعلوه، فلو كان كالمباح المستوى الطرفين والمعفو عنه وكفعل الصبيان والمجانين، ما أمر بالاستغفار والتوبة، فعلم أنه كان من السيئات القبيحة، لكن الله لا يعاقب إلا بعد إقامة الحجة‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ‏}‏‏[‏هود‏:‏1ـ3‏]‏، وقوله تعالى ‏:‏‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏6، 7‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏1ـ4‏]‏‏.‏ فدل على أنها كانت ذنوبًا قبل إنذاره إياهم‏.‏

وقال عن هود‏:‏ ‏{‏وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏50- 52‏]‏، فأخبر في أول خطابه أنهم مفترون بأكثر الذي كانوا عليه، كما قال لهم في الآية الأخرى‏:‏‏{‏أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ‏}‏‏[‏الأعراف‏:‏71‏]‏‏.‏

وكذلك قال صالح‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ‏}‏‏[‏هود‏:‏61‏]‏‏.‏

وكذلك قال لوط لقومه‏:‏‏{‏أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏80‏]‏‏.‏ فدل على أنها كانت فاحشة عندهم قبل أن ينهاهم، بخلاف قول من يقول‏:‏ ما كانت فاحشة، ولا قبيحة، ولا سيئة حتى نهاهم عنها، ولهذا قال لهم‏:‏ ‏{‏أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏29‏]‏‏.‏ وهذا خطاب لمن يعرفون قبح ما يفعلون، ولكن أنذرهم بالعذاب‏.‏

وكذلك قول شعيب‏:‏ ‏{‏أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏85‏]‏‏.‏ بين أن ما فعلوه / كان بخسا لهم أشياءهم، وأنهم كانوا عاثين في الأرض مفسدين قبل أن ينهاهم، بخلاف قول ‏[‏المجبرة‏]‏‏:‏ إن ظلمهم ما كان سيئة، إلا لما نهاهم، وأنه قبل النهي كان بمنزلة سائر الأفعال من الأكل والشرب، وغير ذلك‏.‏ كما يقولون في سائر ما نهت عنه الرسل من الشرك والظلم والفواحش‏.‏

وهكذا إبراهيم الخليل قال‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا‏}‏‏[‏مريم‏:‏41، 42‏]‏،فهذا توبيخ على فعله قبل النهي، وقال أيضًا‏:‏ ‏{‏وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 16، 17‏]‏‏.‏ فأخبر أنهم يخلقون إفكًا قبل النهي‏.‏

وكذلك قول الخليل لقومه أيضًا‏:‏ ‏{‏مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 85- 96‏]‏ فهذا كله يبين قبح ما كانوا عليه، قبل النهي، وقبل إنكاره عليهم، ولهذا استفهم استفهام منكر، فقال‏:‏ ‏{‏أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏، أي‏:‏ وخلق ما تنحتون‏.‏ فكيف يجوز أن تعبدوا ما تصنعونه بأيديكم‏؟‏ وتدعون رب العالمين‏.‏

/فلولا أن حسن التوحيد، وعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وقبح الشرك ثابت في نفس الأمر، معلوم بالعقل، لم يخاطبهم بهذا إذ كانوا لم يفعلوا شيئًا يذمون عليه، بل كان فعلهم كأكلهم وشربهم، وإنما كان قبيحًا بالنهي، ومعني قبحه كونه منهيًا عنه، لا لمعنى فيه، كما تقوله المجبرة‏.‏

وأيضًا، ففي القرآن في مواضع كثيرة يبين لهم قبح ما هم عليه من الشرك وغيره بالأدلة العقلية، ويضرب لهم الأمثال، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ‏}‏ وقوله‏:‏‏{‏أَفَلَا تَتَّقُونَ‏}‏ وقوله ‏:‏‏{‏فَأَنَّى تُسْحَرُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏84-89‏]‏‏.‏ فهذا يقتضي أن اعترافهم بأن الله هو الخالق يوجب انتهاءهم عن عبادتها، وأن عبادتها من القبائح المذمومة، ولكن هؤلاء يظنون أن الشرك هو اعتقاد أن ثم خالق آخر، وهذا باطل، بل الشرك عبادة غير الله، وإن اعترف المشرك بأنه مخلوق‏.‏

وقوله ‏:‏ إنه كله لله، كذب مفترى وإن قال‏:‏ إنه مخلوق‏.‏ ومثل هذا كثير في القرآن‏.‏ كقوله‏:‏‏{‏أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ‏}‏، وهذا في جملة بعد جملة يقول‏:‏ ‏{‏أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏60‏:‏ 61‏]‏، إنكار عليهم أن يعبدوا غير الله، ويتخذوه إلهًا مع اعترافهم بأن هذا لم يفعله إله غير الله، وإنما فعله هو وحده‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ‏}‏ جواب الاستفهام ،أي‏:‏ إله مع الله موجود وهذا غلط، فإنهم يجعلون مع الله آلهة ويشهدون بذلك، لكن ما كانوا يقولون‏:‏ إنهم فعلوا ذلك، والتقرير إنما يكون لما يقرون به، وهم مقرون بأنهم لم يفعلوا، لا يقرون بأنه لم يكن معه إله‏.‏ قال تعالى‏:‏‏{‏أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ‏}‏‏[‏الأنعام‏:‏19‏]‏

وقد قال سبحانه ‏:‏‏{‏وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏54‏]‏‏.‏ وقال ‏:‏‏{‏إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏17‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏[‏النحل‏:‏119‏]‏ ‏.‏

/فهذا وإن كان قال الصحابة والتابعون‏:‏ إن كل عاص فهو جاهل ـ كما قد بسط في موضع آخرـ فهو متناول لمن يكون علم التحريم أيضًا‏.‏

فدل على أنه يكون عاملا سوءًا، وإن كان لم يسمع الخطاب المبين المنهي عنه، وأنه يتوب من ذلك فيغفر الله له ويرحمه، وإن كان لا يستحق العقاب إلا بعد بلوغ الخطاب، وقيام الحجة‏.‏

وإذا كانت التوبة والاستغفار تكون من ترك الواجبات، وتكون مما لم يكن علم أنه ذنب، تبين كثرة ما يدخل في التوبة والاستغفار، فإن كثيرًا من الناس إذا ذكرت التوبة والاستغفار يستشعر قبائح قد فعلها فعلم بالعلم العام أنها قبيحة‏:‏ كالفاحشة، والظلم الظاهر، فأما ما قد يتخذ دينًا فلا يعلم أنه ذنب، إلا من علم أنه باطل؛ كدين المشركين، وأهل الكتاب المبدل، فإنه مما تجب التوبة والاستغفار منه، وأهله يحسبون أنهم على هدى‏.‏ وكذلك البدع كلها‏.‏

ولهذا قال طائفة من السلف ـ منهم الثوري ‏:‏ البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها‏.‏ وهذا معنى ما روى عن طائفة أنهم قالوا‏:‏ إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة، بمعنى أنه لا يتوب منها؛ لأنه يحسب أنه على هدى، ولو تاب لتاب عليه، كما يتوب على الكافر‏.‏ ومن قال‏:‏ إنه لا يقبل / توبة مبتدع مطلقًا فقد غلط غلطًا منكرًا، ومن قال‏:‏ما أذن الله لصاحب بدعة في توبة، فمعناه‏:‏ ما دام مبتدعًا يراها حسنة لا يتوب منها، فأما إذا أراه الله أنها قبيحة، فإنه يتوب منها كما يرى الكافر إنه على ضلال، وإلا فمعلوم أن كثيرًا ممن كان على بدعة، تبين له ضلالها، وتاب الله عليه منها، وهؤلاء لا يحصيهم إلا الله، والخوارج لما أرسل إليهم ابن عباس فناظرهم، ورجع منهم نصفهم أو نحوه، وتابوا وتاب منهم آخرون على يد عمر بن عبد العزيز، وغيره ومنهم من سمع العلم، فتاب وهذا كثير، فهذا القسم الذى لا يعلم فاعلوه قبحه قسم كثير من أهل القبلة، وهو في غيرهم عام، وكذلك ما يترك الإنسان من واجبات لا يعلم وجوبها كثيرة جدا، ثم إذا علم ما كان قد تركه من الحسنات من التوحيد والايمان وما كان مأمورًا بالتوبة منه والاستغفار مما كان سيئة، والتائب يتوب مما تركه وضيعه وفرط فيه من حقوق الله تعالى، كما يتوب مما فعله من السيئات وإن كان قد فعل هذا وترك هذا قبل الرسالة؛ فبالرسالة يستحق العقاب على ترك هذا فعل هذا، وإلا فكونه كان فاعلًا للسيئات المذمومة وتاركًا للحسنات التى يذم تاركها كان تائبًا قبل ذلك كما تقدم وذكرنا القولين قول من نفى الذم والعقاب وقول من أثبت الذم والعقاب‏.‏ فإن قيل إذا لم يكن معاقبا عليها فلا معنى لقبحها قيل بل فيه معنيان‏:‏-

أحدهما‏:‏ إنه سبب للعقاب، لكن هو متوقف على الشرط، وهو الحجة قال تعالى ‏:‏‏{‏وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا‏}‏‏[‏آل عمران 103‏]‏‏.‏ فلولا إنقاذه لسقطوا ومن كان واقفًا على شفير فهلك، فهلاكه موقوف على سقوطه، بخلاف ما إذا بان، وبعد عن ذلك؛ فقد بعد عن الهلاك، فأصحابها كانوا قريبين إلى الهلاك والعذاب الثاني أنهم مذمومون منقوصون معيبون، فدرجتهم منخفضة بذلك، ولابد ولو قدر أنهم لم يعذبوا لا يستحقون ما يستحقه السليم، من ذلك من كرامته أيضًا وثوابه فهذه عقوبة بحرمان خير، وهى أحد نوعي العقوبة وهذا وإن كان حاصلًا لكل من ترك مستحبًا، فإنه يفوته خيره، ففرق بين ما يفوته مالم يحصل له، وبين ما ينقص ما عنده، وهذا كلام عام فيما لم يعاقب عليه من الذنوب، وأما من لم يرسل إليه رسول في الدنيا، فقد رويت آثار أنهم يرسل إليهم رسول في عرصامات القيامة كما قد بسط في مواضع‏.‏

وقد تنازع الناس في الوجوب والتحريم؛ هل يتحقق بدون العقاب على الترك على قولين، قيل لا يتحقق، فإنه إذا لم يعاقب كان كالمباح، وقيل يتحقق؛ فإنه لابد أن يذم وإن لم يعاقب، وتحقيق الأمر أن العقاب نوعان‏:‏

نوع بالآلام، فهذا قد يسقط بكثرة الحسنات، ونوع بنقص الدرجة، وحرمان ما كان يستحقه، فهذا يحصل إذا لم يحصل الأول، والله تعالى يكفر سيئات المسيء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا‏}‏‏[‏النساء 31‏]‏‏.‏ فيكفرها تارة بالمصائب، فتبقى درجة صاحبها كما كانت، وقد تصير درجته أعلى، ويكفرها بالطاعات، ومن لم يأت بتلك السيئات أعلى درجة، فيحرم صاحب السيئات، ما يسقط بازائها من طاعته، وهذا مما يتوب منه من أراد أن لا يخسر ومن فرط في مستحبات؛ فإنه يتوب أيضًا ليحصل له موجبها، فالتوبة تتناول هؤلاء كلهم‏.‏

وتوبة الإنسان من حسناته على أوجه‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يتوب ويستغفر من تقصيره فيها‏.‏

والثاني‏:‏ أن يتوب مما كان يظنه حسنات ولم يكن كحال أهل البدع‏.‏

والثالث‏:‏ يتوب من إعجابه ورؤيته أنه فعلها، وأنها حصلت بقوته، وينسى فضل الله، وإحسانه، وأنه هو المنعم بها، وهذه توبة من فعل مذموم وترك مأمور؛ ولهذا قيل تخليص الأعمال مما يفسدها، أشد على العالمين من طول الاجتهاد، وهذا مما يبين احتياج الناس إلى التوبة دائما، ولهذا قيل هى مقام يستصحبه العبد من أول ما يدخل فيه؛ إلى آخر عمره، ولابد منه لجميع الخلق، فجميع الخلق عليهم أن يتوبوا وأن يستديموا التوبة‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا‏.‏ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا‏}‏‏[‏الأحزاب 72‏,‏ 73‏]‏ فغاية كل مؤمن التوبة، وقد قال الله لأفضل الأنبياء، وأفضل الخلق بعد الأنبياء، وهم السابقون الأولون ‏{‏لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة 117‏]‏‏.‏ ومن آواخر ما أنزل الله قوله ‏{‏إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ‏.‏ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا‏.‏ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا‏}‏ ‏[‏النصر 1‏:‏ 3‏]‏ وقد ثبت في الصحيحين أنه كان يقول في ركوعه، وسجوده ‏:‏‏(‏سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن‏)‏ وفى لفظ لمسلم عن عائشة قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول قبل أن يموت‏:‏ ‏(‏سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك‏)‏ قالت‏:‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله أراك تكثر من قولك سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك، فقال‏:‏ ‏(‏أخبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك فقد رأيتها ‏{‏إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ‏}‏ فتح مكة ‏{‏وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا‏.‏ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا‏}‏‏)‏‏.‏

وأمره سبحانه له بالتسبيح بحمده والاستغفار في هذه الحال، لا يقتضي أنه لا يشرع في غيرها أو لا يؤمر به غيره بل يقتضي أن هذا سبب لما أمر به وإن كان مأمورًا به في مواضع أخر، كما يؤمر الإنسان بالحمد والشكر على نعمه، وإن كان مأمورًا بالشكر عليها وكما يؤمر بالتوبة من ذنب؛ وإن كان مأمورًا بالتوبة من غيره، لكن هو أمر أن يختم عمله بهذا، فغيره أحوج إلى هذا منه‏.‏ وقد يحتاج العبد إلى هذا في غير هذه الحال، كما يحتاج إلى التوبة، فهو محتاج إلى التوبة والاستغفار مطلقا، كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر عقب الصلاة ثلاثا قال تعالى‏{‏وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ‏}‏‏[‏آل عمران 17‏]‏ قاموا الليل ثم جلسوا وقت السحر يستغفرون‏.‏ وقد ختم الله سورة المزمل وفيها قيام الليل بقوله ‏{‏وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏المزمل 20‏]‏، كما ختم بذلك سورة المدثر بقوله ‏{‏هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ‏}‏ ‏[‏المدثر 56‏]‏، فهو سبحانه أهل التقوى، ولم يقل سبحانه أهل للتقوى بل قال‏:‏ أهل التقوى فهو وحده أهل أن يتقى فيعبد دون ما سواه، ولا يستحق غيره أن يتقى، كما قال ‏{‏وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ‏}‏‏[‏النحل 52‏]‏، وقال ‏{‏وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ‏}‏‏[‏النور 52‏]‏، وهو أهل المغفرة، ولا يغفر الذنوب غيره، كما قال تعالى ‏{‏وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران 135‏]‏، وفى غير حديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏‏(‏إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏)‏‏.‏

فهو سبحانه أهل التقوى وأهل المغفرة، وقد جمع الله بين التوحيد والاستغفار في غير موضع، كقوله سبحانه ‏(‏فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات‏)‏ فالمؤمنون يستغفرون مما كانوا تاركيه قبل الاسلام من توحيد الله وعبادته، وإن كان ذلك لم يأتهم به رسول بعد، كما تقدم، والرسول يستغفر من ترك ما كان تاركه، كما قال فيه ‏{‏مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏‏.‏ وإن كان ذلك لم يكن عليه عقاب، والمؤمن إذا تبين له أنه ضيع حق قرابته، أو غيره استغفر الله من ذلك وتاب، وكذلك إذا تبين له أن بعض ما يفعله هو مذموم‏.‏