الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
فصــل وصفه ـ تعالى ـ بالصفات الفعلية ـ مثل الخالق، والرازق، والباعث، والوارث، والمحيى، والمميت ـ قديم عند أصحابنا، وعامة أهل السنة من المالكية، والشافعية، والصوفية. ذكره محمد بن إسحاق الكلاباذي، حتى الحنفية والسالمية والكَرّامية. والخلاف فيه مع المعتزلة، والأشعرية. وكذلك قول ابن عقيل في (الإرشاد) وبسط القول في ذلك، وزعم أن أسماءه الفعلية ـ وإن كانت قديمة ـ فإنها مجاز قبل وجود الفعل، وذكر ذلك عن القاضي في (المعتمد) في مسائل الخلاف مع السالمية، والقاضي إنما ذكر للمسألة ثلاثة مآخذ: أحدها: أنه مثل قولهم: خبز مشبع، وماء مروٍ، وسيف قاطع، وليس ذلك بمجاز؛ لأن المجاز ما يصح نفيه، كما يقال: عن الجد ليس بأب؛ ولا يصح أن يقال: عن السيف الذي يقطع: ليس بقطوع، ولا عن الخبز الكثير، والماء الكثير ليس بمشبع، ولا بمروى فعلم أن ذلك حقيقة. هذا تعليل القاضي. قلت: وهذا لأن الوصف بذلك يعتمد كمال الوصف الذي يصدر عنه الفعل لا ذات الفعل الصادر. وعلى هذا فيوصف بكل ما يتصف بالقدرة عليه وإن لم يفعله. قلت: وقد اختلف أصحابنا في قول أحمد: لم يزل الله عالمًا متكلمًا غفورًا، هل قوله: لم يزل متكلمًا. مثل قوله: غفورًا، أو مثل قوله: عالمًا؟ على قولين. المأخذ الثاني: أن الفعل متحقق منه في الثاني من الزمان، كتحققنا الآن أنه باعث وارث قبل البعث والإرث، وهذا مأخذ أبي إسحاق بن شاقلا والقاضي ـ أيضًا ـ وهذا بخلاف من يجوز أن يفعل ويجوز ألاَّ يفعل. وهذا يشبه من بعض الوجوه وصف النبي قبل النبوة، بأنه خاتم النبيين، وسيد ولد آدم، وخاتم الرسل ووصف عمر بأنه فاتح الأمصار، كما قيل: ولد الليلة نبي هذه الأمة، وكما قال: (اقتدوا باللذين من بعدي أبى بكر وعمر) . وقد ذكر طائفة من الأصوليين أن إطلاق الصفة قبل وجود المعنى مجاز بالاتفاق، وحين وجوده حقيقة، وبعد وجوده وزواله محل الاختلاف؛ لكن هذه الحكاية مردودة عند الجمهور، فيفرقون بين من يتحقق وجود الفعل منه،وبين من يمكن وجود الفعل منه. ثم قد يقال: كونه خالقًا في الأزل للمخلوق فيما لا يزال بمنزلة كونه مريدًا في الأزل ورحيمًا، وبهذا يظهر الفرق بين إطلاق ذلك عليه وإطلاق الوصف على من سيقوم به في المستقبل من المخلوقين، فعلى الوجه الأول يكون الخالق بمنزلة القادر، وعلى هذا الوجه يكون الخالق بمنزلة الرحيم.وهذا الفرق يعود إلى: المأخذ الثالث: وهو أن الله ـ سبحانه ـ في ذاته حاله قبل أن يفعل وحاله بعد أن يفعل سواء، لم تتغير ذاته عن أفعاله، ولم يكتسب عن أفعاله صفات كمال كالمخلوق. وهذا المأخذ نبه عليه القاضي ـ أيضًا ـ فقال: وأيضًا فقد ثبت كونه الآن خالقًا والخالق ذاته، وذاته كانت في الأزل، فلو لم يكن خالقًا وصار خالقًا للزمه التغير والتحويل، والله يتعالى عن ذلك، وعلى هذا فيكون ذلك بمنزلة الرحيم والحليم. المأخذ الرابع: أن الخلق صفة قائمة بذاته ليست هي المخلوق، وجوز القاضي في موضع آخر أن يقال: هو قديم الإحسان والإنعام، ويعنى به أن الإحسان صفة قائمة به غير المحسن به، ومنع أن يقال: يا قديم الخلق، لأن الخلق هو المخلوق، وهذا أحد القولين لأصحابنا، وهو قول الكَرّامية والحنفية وتسميها فرقة التكوين. والقول الثاني: أن الخلق هو المخلوق، كقول الأشعرية. قال القاضي في عيون المسائل: (مسألة) والخلق غير المخلوق، فالخلق صفة قائمة بذاته، والمخلوق هو الموجود المخترع لا يقوم بذاته، قال: وهذا بناء على المسألة التي تقدمت، وأن الصفات الصادرة عن الأفعال موصوف بها في القدم. قلت: ثم هل يحدث فعل في ذاته من قول أو إرادة عند وجود المخلوقات؟ فيه خلاف بين أصحابنا وغيرهم، مبنى على الصفات الفعلية،مثل الاستواء والنزول ونحو ذلك، مع اتفاقهم على أنه لم يزل موصوفًا بصفاته قديمًا بها لم يتجدد له صفة كمال، لكن أعيان الأقوال والأفعال، هل هي قديمة، أم الكمال أنه لم يزل موصوفًا بنوعها؟ وتلخيص الكلام هنا: أن كونه خالقًا وكريمًا، هل هو لأجل ما أبدعه منفصلاً عنه من الخلق والنعم ؟ أم لأجل ما قام به من صفة الخلق والكرم؟ الثاني هو قول الحنفية والكَرَّامية، وكثير من أهل الحديث، وأصحابنا في أحد القولين، بل في أصحهما، وعليه يدل كلام أحمد وغيره من علماء السنة. وعلى هذا القول، يقال: إنه لم يزل كريمًا وغفورًا وخالقًا، كما يقال: لم يزل متكلمًا، ويكون في تفسير ذلك قولان كما في تفسير المتكلم قولان، هل هو يلحق بالعالم أو بالغفور؟ والأول هو قول الأشعرية، بناء على أن الخلق هو المخلوق. وعلى هذا، فقول أصحابنا: كان خالقًا في الأزل إما بمعنى القدرة التامة، كما يقال: سيف قاطع، أو بمعنى وجود الفعل قطعًا في الحال الثاني، كما يقال: هذا فاتح الأمصار، وهذا نبي هذه الأمة، وعلى هذا المعني فالخلق من الصفات النسبية الإضافية. وإذا جعلنا الخلق صفة قائمة به، فهل هي المشيئة والقول، أم صفة أخرى؟ على قولين. الثاني قول الحنفية، وأكثر الفقهاء والمحدثين، كما اختلف أصحابنا في الرحمة والرضا والغضب، هل هي الإرادة أم صفة غير الإرادة؟ على قولين، أصحهما أنها ليست هي الإرادة. فما شاء الله كان، و هو لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر. وأما قولنا: هو موصوف في الأزل بالصفات الفعلية من الخلق والكرم، والمغفرة، فهذا إخبار عن أن وصفه بذلك متقدم؛ لأن الوصف هو الكلام الذي يخبر به عنه، وهذا مما تدخله الحقيقة والمجاز، وهو حقيقة عند أصحابنا، وأما اتصافه بذلك فسواء كان صفة ثبوتية وراء القدرة، أو إضافية، فيه من الكلام ما تقدم.
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
فَصْــل فيما ذكره الرازي في (الأربعين) في مسألة الصفات الاختيارية، التي يسمونها حلول الحوادث، بعد أن قرر أن هذا المذهب قال به أكثر فرق العقلاء، وإن كانوا ينكرونه باللسان. قال: واعلم أن الصفات على ثلاثة أقسام: حقيقية عارية عن الإضافات كالسواد والبياض. وثانيها: الصفات الحقيقية التي تلزمها الإضافات، كالعلم والقدرة. وثالثها: الإضافات المحضة، والنسب المحضة، مثل كون الشىء قبل غيره وعنده، ومثل كون الشىء يمينًا لغيره أو يسارًا له، فإنك إذا جلست على يمين إنسان، ثم قام ذلك الإنسان وجلس في الجانب الآخر منك، فقد كنت يمينًا له، ثم صرت الآن يسارًا له، فهنا لم يقع التغير في ذاتك، ولا في صفة حقيقية من صفاتك، بل في محض الإضافات. إذا عرفت هذا، فنقول: أما وقوع التغير في الإضافات فلا خلاص عنه، وأما وقوع التغير في الصفات الحقيقية، فالكرامية يثبتونه، وسائر الطوائف ينكرونه فبهذا يظهر الفرق في هذا الباب بين مذهب الكرامية ومذهب غيرهم. قال: والذي يدل على فساد قول الكرامية وجوه: الأول: أن كل ما كان من صفات الله فلابد أن يكون من صفات الكمال، ونعوت الجلال، فلو كانت صفة من صفاته محدثة، لكانت ذاته قبل حدوث تلك الصفة خالية عن صفة الكمال والجلال. والخالي عن صفة الكمال ناقص، فيلزم أن ذاته كانت ناقصة قبل حدوث تلك الصفة فيها، وذلك محال. فثبت أن حدوث الصفة في ذات الله محال. قلت: ولقائل أن يقول: ما ذكرته لا يدل على محل النزاع، وبيان ذلك من وجوه: أحدها: أن الدليل مبني على مقدمات لم يقرروا واحدة منها، لا بحجة عقلية ولا سمعية، وهو أن كل ما كان من صفات الله لابد أن يكون من صفات الكمال، وأن الذات قبل تلك الصفة تكون ناقصة، وأن ذلك النقص محال. وحقيقة الأمر لو قام به حادث لامتنع خلوه منه قبل ذلك. ولم يقم على ذلك حجة. الثاني: أن وجوب اتصافه بهذا الكمال، وتنزيهه عن النقص، لم تذكر في كتبك عليه حجة عقلية، بل أنت وشيوخك ـ كأبي المعالي وغيره ـ تقولون: إن هذا لم يعلم بالعقل، بل بالسمع، وإذا كنتم معترفين بأن هذه المقدمة لم تعرفوها بالعقل، فالسمع إما نص وإما إجماع، وأنتم لم تحتجوا بنص، بل في القرآن أكثر من مائة نص حجة عليكم، والأحاديث المتواترة حجة عليكم. ودعوى الإجماع إذا كانت أزلية وجب أن يكون المقبول صحيح الوجود في الأزل. والدليل عليه: أن كون الشىء قابلاً لغيره نسبة بين القابل والمقبول، والنسبة بين المنتسبين متوقفة على تحقق كل واحد من المنتسبين، وصحة النسبة تعتمد وجود المنتسبين. فلما كانت صحة اتصاف الباري بالحوادث حاصلة في الأزل، لزم أن تكون صحة وجود الحوادث حاصلة في الأزل. فيقال لك: هذا الدليل بعينه موجود في كونه قادرًا، فإن كون الشىء قادرًا على غيره نسبة بين القادر والمقدور، والنسبة بين المنتسبين متوقفة على تحقيق كل واحد من المنتسبين، وصحة النسبة تعتمد وجود المنتسبين. فلما كانت صحة اتصاف الباري بالقدرة على الغير حاصلة في الأزل، لزم أن يكون صحة وجود المقدور حاصلة في الأزل، فهذا وزان ما قلته سواء بسواء. وحينئذ، فإن جوزت وجود أحد المنتسبين، وهو كونه قادرًا في الأزل، مع امتناع وجود المقدور في الأزل، فجوز أحد المنتسبين، وهو كونه قابلاً في الأزل، مع امتناع وجود المقبول في الأزل، وإن لم تجوز ذلك، بل لا تتحقق النسب إلا مع تحقيق المنتسبين جميعًا، لزم إما تحقق إمكان المقدور في الأزل وإما امتناع كونه قادرًا في الأزل، وأياما كان بطلت حجتك، سواء جوزت وجود أحد المنتسبين مع تأخر الآخر، أو جوزت وجود المقدور في الأزل، أو قلت: إنه ليس بقادر في الأزل، فإن هذا وإن كان لا يقوله لكن لو قدر أن أحدًا التزمه، وقال: إنه يصير قادرًا بعد أن لم يكن قادرًا، كما يقولون:إنه يصير قابلاً بعد أن لم يكن قابلاً. قيل له: كونه قادرًا، إن كان من لوازم ذاته وجب كونه لم يزل قادرًا، وامتنع وجود الملزوم وهو الذات بدون اللازم، وهو القدرة. وإن لم تكن من لوازم الذات كانت من عوارضها، فتكون الذات قابلة لكونه قادرًا، وكانت الذات قابلة لتلك القابلية. فقبول كونه قادرًا إن كان من اللوازم عاد المقصود، وإن كان من العوارض افتقر إلى قابلية أخرى، ولزم إما التسلسل وإما الانتهاء إلى قادرية تكون من لوازم الذات. الجواب الثامن: أن يقال: فرقك بأن وجود القادر يجب أن يكون متقدمًا على وجود المقدور، ووجود القابل لا يجب أن يكون متقدمًا على وجود المقبول، فرق بمجرد الدعوى ولم تذكر دليلاً، لا على هذا ولا على هذا، والنزاع ثابت في كلا الأمرين. فمن الناس من يقول: لا يجب أن يكون القادر متقدمًا على إمكان وجود المقدور، بل ولا يجوز، بل يمكن أن يكون وجود المقدور مع قدرة القادر. وهذا كما يكون المقدور مع القدرة عند جماهير الناس من المسلمين وغيرهم، وإن كان وجود المقدور مع القادر يفسر بشيئين: أحدهما: أن يكون المقدور أزليًا مع القادر في الزمان. فهذا لا يقوله أهل الملل وجماهير العقلاء، الذين يقولون: إن الله خالق كل شىء، وهو القديم وما سواه مخلوق، حادث بعد أن لم يكن، وإنما يقوله شرزمة من الفلاسفة، الذين يقولون: إن الفلك معه بالزمان لم يتأخر عنه، ويجعلونه مع ذلك مفعولاً مقدورًا. وأما كون المقدور متصلاً بالقادر، بحيث لا يكون بينهما انفصال ولكنه عقبه، فهذا مما يقوله أكثر العقلاء من المسلمين وغيرهم. ويقولون: المؤثر التام يوجد أثره عقب تأثره. ويقولون: الموجب التام يستلزم وجود موجبه عقبه لا معه، فإن الناس في المؤثر التام على ثلاثة أقوال: منهم من يقول: يجوز أو يجب أن يكون أثره منفصلاً عنه، فلا يكون المقدور إلا متراخيًا عن القادر، والأثر متراخيًا عن المؤثر، كما يقول ذلك كثير من أهل الكلام وغيرهم. ومنهم من يقول: بل يجوز أو يجب أن يقارنه في الزمان، كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة، ووافقهم عليه بعض أهل الكلام في العلة الفاعلية، فقالوا: إن معلولها يقارنها في الزمان. والقول الثالث: إن الأثر يتصل بالمؤثر التام لا ينفصل عنه، ولا يقارنه في الزمان، فالقادر يجب أن يكون متقدمًا على وجود المقدور لا ينفصل عنه. وإذا قال القائل: وجود القادر يجب أن يكون متقدمًا على وجود المقدور، قالوا: إن عنيت بالتقدم الانفصال فممنوع، وإن عنيت عدم المقارنة فمسلم، ولكن لا نسلم المقارنة. وذلك يتضح بالجواب التاسع: وهو أن يقال: قولك إما وجوب وجود القابل فلا يجب أن يكوم متقدمًا على وجود المقبول، فلم تذكر عليه دليلاً. وهي قضية كلية سالبة، وهي ممنوعة، بل المقبول قد يكون من الصفات اللازمة، كالحياة والعلم والقدرة، فيجب أن يقارن المقبول للقابل، فلا يتقدم القابل على المقبول، وقد يكون من الأمور الاختيارية التي تحدث بقدرة الرب ومشيئته. فهذه المقبولات هي مقدورة للرب،وهي مع كونها مقبولة نوع من المقدورات، وأنت قد قلت: إن المقدور يجب أن يكون متأخرًا عن وجود المقدور، وهذا النوع من المقبولات مقدور، فيجب على قولك أن يكون القابل لهذه متقدمًا على وجود المقبول. ثم التقدم، إن عنيت به مع الانفصال والبينونة الزمانية، ففيه نزاع. وإن عنيت به المتقدم ـ وإن كان المقدور المقبول متصلاً بالقادر القابل من غير برزخ بينهما ـ فهذا لا ينازعك فيه أحد من أهل الملل، وجماهير العقلاء، بل لا ينازعك فيه عاقل يتصور ما يقول، فإن المقدور الذي يفعله القادر الأزلي بمشيئته، يمتنع أن يكون قديمًا معه لم يتقدم القادر عليه. ولهذا كان العقلاء قاطبة على أن كل ما كان مقدورًا مفعولاً بالاختيار، بل مفعولاً مطلقًا، لم يكن إلا حادثًا كائنًا بعد أن لم يكن. الجواب العاشر: أن وجود الحوادث شيئًا بعد شىء، إن كان ممكنًا كانت الذات قابلة لذلك، وإن كان ممتنعًا امتنع أن تكون قابلة له، بل وإن قيل: إن القبول من لوازمها فهو مشروط بإمكان المقبول، فلم تزل قابلة لما يمكن وجوده دون ما يمتنع. وهذا هو الجواب الحادي عشر: وهو أن يقال: الذات لم تزل قابلة، لكن وجود المقبول مشروط بإمكانه، فلم تزل قابلة لما يمكن وجوده، لا لما لا يمكن وجوده. الوجه الثاني عشر: أن يقال: عمدة النفاة أنه لو كان قابلاً لها في الأزل، للزم وجودها أو إمكان وجودها في الأزل، وقرروا ذلك في الطريقة المشهورة: بأن القابل للشىء لا يخلو عنه وعن ضده. وقد نازعهم الجمهور في هذه المقدمة، ونازعهم فيها الرازي والآمدي وغيرهما. وهم يقولون: كل جسم من الأجسام فإنه لا يخلو من كل جنس من الأعراض عن واحد من ذلك الجنس؛ لأن القابل للشىء لا يخلو منه ومن ضده؛ فلذلك عدل من عدل إلى أن يقولوا: لو كان قابلاً لها لكان قبوله لها من لوازم ذاته، وهذا يقتضي أن يفسر: لو كان قابلاً للحوادث لم يخل من الحادث أو من ضده. فقولهم: القابل للشىء، لا يخلو عن ضده، فقد يقال على هذه الطريقة: إن هذا يختص به لا بما سواه. وقد يقال: هوعام أيضًا، فيقول لهم أصحابهم: ما ذكرتموه في حقه منقوض بقبول سائر الموصوفات بما تقبله، فإن قبولها لما تقبله إن كان من لوازم ذاتها لزم ألاَّ تزال قابلة له، وإن كان من عوارض الذات فهي قابلة لذلك القبول. وحينئذ، يلزم إما التسلسل وإما الانتهاء إلى قابلية تكون من لوازم الذات، فيلزم أن يكون كل ما يقبل شيئًا قبوله له من لوازم ذاته، وليس الأمر كذلك، فإن الإنسان ـ وغيره من الموجودات ـ يقبل صفات في حال دون حال. وجواب هذا: أن المخلوق الذي يقبل بعض الصفات في بعض الأحوال، لابد أن يكون قد تغير تغيرًا أوجب له قبول ما لم يكن قابلاً له، كالإنسان إذا كبر حصل له من قبول العلم والفهم ما لم يكن قابلاً له قبل ذلك، بخلاف من لم تزل ذاته على حال واحدة، ثم قبل ما لم يكن قابلاً، فإن هذا ممتنع. فالذين يقولون: القابل للشىء يجب أن يكون قبوله له من لوازم ذاته، إن ادعوا أن كل جسم فإنه يقبل جميع أنواع الأعراض، فإنهم يقولون: هذا القبول من لوازم ذاته. ويقولون: لا يخلـو الجسم من كل نوع من أنواع الأْعراض عن واحد من ذلك النوع، ويكون ما ذكروه ـ من أن القبول من لوازم ذات القابل ـ دليلاً لهم في المسألتين، وإن لم يدعوا ذلك، فإنهم يقولون: الأجسام تتغير، فتقبل في حال ما لم تكن قابلة له في حالة أخرى، ولا يحتاجون أن يقولوا: القابل للشىء لا يخلو عنه وعن ضده. والذين قالوا: إن القابل للشىء لا يخلو عنه وعن ضده، فيقال لهم: غاية هذا أن يكون لم تزل الحوادث قائمة به، ونحن نلتزم ذلك وتحقيق ذلك بـ: الوجه الثالث عشر: وهو أن يقال: هذا بعينه موجود في القادر؛ فإن القادرعلى الشىء لا يخلو عنه وعن ضده؛ ولهذا كان الأمر بالشىء نهيًا عن ضده، والنهي عن الشىء أمرًا بأحد أضداده. وقال الأكثرون: المطلوب بالنهي فعل ضد المنهي عنه، وقال: إن الترك أمر وجودي هو مطلوب الناهي. القادر على الأضداد، لو أمكن خلوه عن جميع الأضداد لكان إذا نهى عن بعض الأضداد لم يجب أن يكون مأمورًا بشىء منها، لإمكان ألاَّ يفعل ذلك الضد ولا غيره من الأضداد. فلما جعلوه مأمورًا ببعضها، علم أن القادر على أحد الضدين لا يخلو منه ومن ضده، وحينئذ فإذا كان الرب لم يزل قادرًا، لزم أنه لم يزل فاعلاً لشىء أو لضده، فيلزم من ذلك أنه لم يزل فاعلاً، وإذا أمكن أنه لم يزل فاعلاً للحوادث أمكن أنه لم يزل قابلاً لها. ويمكن أن يذكر هذا الجواب على وجه لا يقبل النزاع. الوجه الرابع عشر: فيقال: إن كان القابل للشىء لا يخلو عنه وعن ضده، فالقادر على الشىء لا يخلو عنه وعن ضده؛ لأن القادر قابل لفعل المقدور، وإن كان قبول القابل للحوادث يستلزم إمكان وجودها في الأزل، فقدرة القادر أزلية على فعل الحوادث يستلزم إمكان وجودها في الأزل، وإن أمكن أن يكون قادرًا مع امتناع المقدور، أمكن أن يكون قابلاً مع امتناع المقبول. وإن قيل: قبوله لها من لوازم ذاته، قيل: قدرته عليها من لوازم ذاته. وحينئذ، فإن كان دوام الحوادث ممكنًا، أمكن أنه لم يزل قادرًا عليها، قابلاً لها، وإن كان دوامها ليس بممكن، فقد صار قبوله لها وقدرته عليها ممكنًا بعد أن لم يكن. فإن كان هذا جائزًا جاز هذا، وإن كان هذا ممتنعًا كان هذا ممتنعًا، وعاد الأمر في هذه المسألة إلى نفس القدرة على دوام الحوادث وهو الأصل المشهور، فمن قال به من أئمة السنة والحديث،وأنه لم يزل قادرًا على أن يتكلم بمشيئته وقدرته، ويفعل بمشيئته، جوز ذلك، والتزم إمكان حوادث لا أول لها. فكان ما احتج به أئمة الفلاسفة على قدم العالم، لا يدل على قدم شىء من العالم، بل إنما يدل على أصول أئمة السنة والحديث، المعتنين بما جاء به الرسول، وكان غاية تحقيق معقولات المتكلمين والمتفلسفة يوافق ويعين ويخدم ما جاءت به الرسل، ومن لم يقل بذلك من المتكلمين ـ بل قال بامتناع دوام الحوادث ـ لم يكن عنده فرق بين قبوله لها وقدرته عليها. وكان قول الذين قالوا: ـ من هؤلاء ـ بأنه يتكلم بمشيئته وقدرته كلامًا يقوم بذاته أقرب إلى المعقول والمنقول ممن يقول: إن كلامه مخلوق، أو أنه يقوم به كلام قديم، من غير أن يمكنه أن يتكلم بقدرته، أو مشيئته. وكل قول يكون أقرب إلى المعقول والمنقول، فإنه أولى بالترجيح، مما هو أبعد عن ذلك من الأقوال. والله ـ تعالى ـ أعلم.
قال الرازي: الحجة الثالثة: قصة الخليل ـ عليه الصلاة والسلام ـ: أحدها: أنا لا نسلم أن الأفول هو التغير، ولم يذكر على ذلك حجة، بل لم يذكر إلا مجرد الدعوى. الثاني: أن هذا خلاف إجماع أهل اللغة والتفسير، بل هو خلاف ما علم بالاضطرار من الدين، والنقل المتواتر للغة والتفسير، فإن الأفول هو المغيب. يقال: أفلت الشمس تأفُل وتأفِل أفولاً إذا غابت، ولم يقل أحد قط: إنه هو التغير، ولا أن الشمس إذا تغير لونها يقال: إنها أفلت، ولا إذا كانت متحركة في السماء يقال: إنها أفلت، ولا أن الريح إذا هبت يقال: إنها أفلت، ولا أن الماء إذا جرى يقال: إنه أفل، ولا أن الشجر إذا تحرك يقال: إنه أفل، ولا أن الآدميين إذا تكلموا أو مشوا وعملوا أعمالهم يقال: إنهم أفلوا، بل ولا قال أحد قط: إن من مرض أو اصفر وجهه أو احمر يقال: إنه أفل. فهذا القول من أعظم الأقوال افتراء على الله، وعلى خليل الله، وعلى كلام الله ـ عز وجل ـ وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله، وعلى أمة محمد جميعًا، وعلى جميع أهل اللغة، وعلى جميع من يعرف معاني القرآن. الثالث: أن قصة الخليل ـ عليه السلام ـ حجة عليكم، فإنه لما رأى كوكبًا وتحرك إلى الغروب فقد تحرك، ولم يجعله آفلاً، ولما رأى القمر بازغًا رآه متحركًا، ولم يجعله آفلاً، فلما رأى الشمس بازغة علم أنها متحركة، ولم يجعلها آفلة، ولما تحركت إلى أن غابت والقمر إلى أن غاب لم يجعله آفلاً. الرابع: قوله: إن الأفول عبارة عن التغير، إن أراد بالتغير الاستحالة، فالشمس، والقمر، والكواكب لم تستحل بالمغيب، وإن أراد به التحرك، فهو لا يزال متحركًا، وقوله: {فَلَمَّا أَفَلَ} دل على أنه يأفل تارة ولا يأفل أخرى. فإن {لما} ظرف يقيد هذا الفعل بزمان هذا الفعل، والمعنى: أنه حين أفل وقوله: {فَلَمَّا أَفَلَ} دل على حدوث الأفول وتجدده، والحركة لازمة له، فليس الأفول هو الحركة، ولفظ التغير والتحرك مجمل. إن أريد به التحرك أو حلول الحوادث، فليس هو معنى التغير في اللغة، وليس الأفول هو التحرك ولا التحرك هو التغير، بل الأفول أخص من التحرك، والتغير أخص من التحرك. وبين التغير والأفول عموم وخصوص، فقد يكون الشىء متغيرًا غير آفل، وقد يكون آفلاً غير متغير، وقد يكون متحركًا غير متغير، ومتحركًا غير آفل. وإن كان التغير أخص من التحرك على أحد الاصطلاحين، فإن لفظ الحركة قد يراد بها الحركة المكانية، وهذه لا تستلزم التغير. وقد يراد به أعم من ذلك، فالحركة في الكيف والكم، مثل حركة النبات بالنمو، وحركة نفس الإنسان بالمحبة، والرضا، والغضب، والذكر. فهذه الحركة قد يعبر عنها بالتغير، وقد يراد بالتغير في بعض المواضع الاستحالة. ففي الجملة الاحتجاج بلفظ التغير إن كان سمعياً فالأفول ليس هو التغير، وإن كان عقليا، فإن أريد بالتغير ـ الذي يمتنع على الرب ـ محل النزاع، لم يحتج به. وإن أريد به مواقع الإجماع فلا منازعة فيه. وأفسد من هذا قول من يقول: الأفول هو الإمكان، كما قاله ابن سينا: إن الهوى في حضيرة الإمكان أفول بوجه ما، فإنه يلزم على هذا أن يكون كل ما سوى الله آفلاً، ولا يزال آفلاً، فإن كل ما سواه ممكن، ولا يزال ممكنا، ويكون الأفول وصفًا لازمًا لكل ما سوى الله، كما أن كونه ممكنًا وفقيرًا [في المطبوعة ـ ممكن و فقير ـ والصواب ما أثبتناه] إلى الله وصف لازم له. وحينئذ، فتكون الشمس، والقمر،والكواكب، لم تزل ولا تزال آفلة وجميع ما في السموات والأرض، لا يزال آفلاً. فكيف يصح قوله مع ذلك: وعلى كلام هؤلاء المحرفين لكلام الله ـ تعالى ـ وكلام خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم عن مواضعه، هو آفل قبل أن يبزغ، ومن حين بزغ، وإلى أن غاب. وكذلك جميع ما يرى وما لا يرى في العالم آفل، والقرآن بين أنه لما رآها بازغة قال: {هّذّا رّبٌَي} فلما أفلت بعد ذلك. قال:
فَصْــل فيه قاعدة شريفة وهي: [أن جميع ما يحتج به المبطل من الأدلة الشرعية والعقلية إنما تدل على الحق، لا تدل على قول المبطل]. وهذا ظاهر يعرفه كل أحد، فإن الدليل الصحيح لا يدل إلا على حق، لا على باطل. يبقى الكلام في أعيان الأدلة، و بيان انتفاء دلالتها على الباطل، ودلالتها على الحق هو تفصيل هذا الإجمال. والمقصود هنا شىء آخر، وهو: أن نفس الدليل الذي يحتج به المبطل هو بعينه إذا أعطى حقه، وتميز ما فيه من حق وباطل، وبين ما يدل عليه، تبين أنه يدل على فساد قول المبطل المحتج به في نفس ما احتج به عليه، وهذا عجيب ! قد تأملته فيما شاء الله من الأدلة السمعية فوجدته كذلك!! والمقصود هنا بيان أن: الأدلة العقلية التي يعتمدون عليها في الأصول والعلوم الكلية والإلهية هي كذلك. فأما الأدلة السمعية، فقد ذكرت من هذا أمورا متعددة مما يحتج به الجهمية، والرافضة وغيرهم، مثل احتجاج الجهمية نفاة الصفات بقوله: وهذا مبسوط في غير موضع في الرد على الجهمية يتضمن الكلام على تأسيس أصولهم، التي جمعها أبو عبد الله الرازي في مصنفه الذي سماه [تأسيس التقديس]، فإنه جمع فيه عامة حججهم، ولم أر لهم مثله. وكذلك احتجاجهم على نفي الرؤية بقوله: وكذلك احتجاج الشيعة بقوله: والمقصود هنا الأدلة العقلية، فإن كل من له معرفة يعرف أن السمعيات إنما تدل على إثبات الصفات. وأما الرافضة، فعمدتهم السمعيات، لكن كذبوا أحاديث كثيرة جدًا، راج كثير منها على أهل السنة، وروى خلق كثير منها أحاديث، حتى عسر تمييز الصدق من الكذب على أكثر الناس، إلا على أئمة الحديث العارفين بعلله متنا وسندًا. كما أن الجهمية أتوا بحجج عقلية، اشتبهت على أكثر الناس وراجت عليهم، إلا على قليل ممن لهم خبرة بذلك. والكلام على أحاديث الرافضة وبيان الفرقان بين الحديث الصدق والكذب مذكور في غير هذا الموضع، كالرد على الرافضة. والمقصود هنا الكلام على الأدلة العقلية، التي يحتج بها المبطل من الجهمية نفاة الصفات، ومن الممثلة الذين يمثلونه بخلقه، وعلى الأدلة التي يحتج بها القدرية النافية، والقدرية المجبرة الجهمية، فإن هذين الأصلين وهما: الصفات والقدر ـ ويسميان التوحيد والعدل ـ هما أعظم وأجل ما تكلم فيه في الأصول، والحاجة إليهما أعم، ومعرفة الحق فيهما أنفع من غيرهما، بل وكذلك بسائر ما يحتج به في أصول الدين من الحجج العقلية والسمعية. وأصل ذلك الكلام في أفعال الرب ـ تعالى ـ وأقواله في [مسألة حدوث العالم] وفي [مسألة القرآن، وكلام الله]. فنقول: إذا تدبر الخبير ما احتج به من يقول: إن القرآن قديم ـ كالأشعري وأتباعه، ومن وافقهم، كالقاضي أبي يعلى وأتباعه، وأبي المعالي وأبي الوليد الباجي، وأبي منصور الماتريدي، وغيرهم من الحنبلية، والشافعية، والمالكية، والحنفية ـ لم توجد عند التحقيق تدل إلا على مذهب السلف والأئمة الذي يدل عليه الكتاب والسنة. وكذلك إذا تدبر ما يحتج به من يقول: إن القرآن مخلوق، إنما يدل على قول السلف والأئمة. أما الأول: فلأن عمدة القائلين بقدم الكلام من الأدلة العقلية حجتان، عليهما اعتماد الأشعري وأصحابه ومن وافقهم. كالقاضي أبي يعلى، وأبى الحسن بن الزاغونى وأمثالهما، وهذه هي عمدة أئمة النظار كابن كُلاَّب، والأشعري، والقلانسي، وأمثالهم، في نفس الأمر من العقليات. وهي عمدة من لا يعتمد في الأصول في مثل هذه المسألة وأمثالها إلا على العقليات كأبي المعالي ومتبعيه. الحجة الأولى: أنه لو لم يكن الكلام قديمًا للزم أن يتصف في الأزل بضد من أضداده، إما السكوت وإما الخرس، ولو كان أحد هذين قديمًا لامتنع زواله، وامتنع أن يكون متكلمًا فيما لا يزال، ولما ثبت أنه متكلم فيما لم يزل ثبت أنه لم يزل متكلمًا، وأيضًا فالخرس آفة ينزه الله عنها. والحجة الثانية: أنه لو كان مخلوقًا لكان قد خلقه إما في نفسه، أو في غيره، أو قائمًا بنفسه، والأول ممتنع؛ لأنه يلزم أن يكون محلاً للحوادث، والثاني باطل؛ لأنه يلزم أن يكون كلامًا للمحل الذي خلق فيه، والثالث باطل؛ لأن الكلام صفة، والصفة لا تقوم بنفسها. فلما بطلت الأقسام الثلاثة تعين أنه قديم. فيقال: أما الحجة الأولى، فهي تدل على مذهب السلف، وأنه لم يزل متكلمًا إذا شاء وكيف شاء، فيدل على أن نوع الكلام قديم، لا على أنه لم يتكلم بمشيئته وقدرته، وأن الكلام شىء واحد هو قديم. وكذلك احتجاج الفلاسفة القائلين بقدم العالم على قدم الفاعلية، إنما يدل على مذهب السلف أيضًا، فهؤلاء الذين احتجوا على قدم مفعوله المعين ـ وهو الفلك ـ والذين احتجوا على قدم كلامه المعين، كل ما احتجوا به من دليل صحيح فإنه لا يدل على مطلوبهم، بل إنما يدل على مذهب السلف المتبعين للرسول، فتبين أن الأدلة العقلية الصحيحة من جميع الطوائف إنما تدل على تصديق الرسول، وتحقيق ما أخبر به، لا على خلاف قوله، وهي من آيات الله الدالة على تصديق الأنبياء التي قال الله فيها: وكذلك أدلة المعتزلة والكرَّامية وغيرهما، كما سنذكره إن شاء الله؛ إذ المقصود هنا الكلام على ما تعتمد عليه أئمة النظار من الأشعرية ونحوهم، والفلاسفة ونحوهم، وهاتان الطائفتان كل طائفة تقابل الأخرى بالمشرق والمغرب، وكثير من الناس مع هؤلاء تارة ومع الأخرى تارة، كالغزالي، والرازي، والآمدي ونحوهم. والمقصود هنا بيان دلالة الأدلة العقلية على مذهب السلف، الذي جاء به الكتاب والسنة، فنقول: أما الحجة الأولى: وهي قولهم: لو لم يكن متكلمًا في الأزل لكان متصفًا بضده إما السكوت، وإما الخرس؛ لأنه حي، والحي إذا لم يكن متكلمًا كان ساكتًا أو أخرس، كما أنه إذا لم يكن سميعًا كان أصم، وإذا لم يكن بصيرًا كان أعمى، ولأن ذاته قابلة للكلام والقابل للشىء لا يخلو عنه وعن ضده، هكذا يحتجون له. وقد نوزعوا في ذلك، وخالفهم العقلاء، حتى أصحابهم المتأخرون؛ مثل الرازي، والآمدي، فإن أولئك ادعوا أن الجسم لما كان قابلاً للأعراض لم يخل من كل نوع من أنواع الأعراض من بعضها، وقالوا: إن الهواء له طعم ولون وريح فخالفهم الجمهور. لكن تقرير الحجة بأن يقال: لأن الرب ـ تعالى ـ إذا كان قابلاً للاتصاف بشىء لم يخل منه، أو من ضده. أو يقال: بأنه إذا كان قابلاً للاتصاف بصفة كمال، لزم وجودها له؛ لأن ما كان الرب قابلاً له لم يتوقف وجوده له على غيره، فإن غيره لا يجعله لا متصفًا ولا فاعلاً، بل ذاته وحدها هي الموجبة لما كان قابلاً له، وإذا كانت ذاته هي الموجبة لما هو قابل له وذاته واجبة الوجود كان المقبول واجب الوجود له، وهو إذا قدر أنه قابل للضدين لم يخل من أحدهما؛ لأنه لو خلا من أحدهما لكان وجود أحدهما له متوقفًا على سبب غير ذاته، فإن التقدير أنه قابل له ووجود المقبول له ممكن، وقد عرف أنه لا يتوقف على غيره، وإن لم يكن موجدًا له ولم تكن ذاته موجبة له، وإلا امتنع وجوده، فإن غيره لا يجعله موجودًا له، وإذا لم يوجد ـ لا بنفسه ولا بغيره ـ كان ممتنعًا، والتقدير أنه ممكن، فما كان ممكنًا له كان واجباً له. فإذا قررت الحجة على هذا الوجه لم يحتج أن يقال: كل قابل للشىء لا يخلو عنه وعن ضده، فإن هذه الدعوى الكلية باطلة، بل يدعى ذلك في حق الله خاصة، لما ذكر من الدليل والفرق بينه وبين غيره،فإن غيره إذا كان قابلاً للشىء كان وجود القبول فيه من غيره وهو الله ـ تعالى ـ وإحداث الله لذلك القبول لا يجب أن يكون مقارنًا للقابل،بل يجوز أن يتوقف على شروط يحدثها الله وعلى موانع يزيلها، فوجود القبول هنا ليس منه بل من غيره،فلم تكن ذاته كافية فيه،وأما الرب ـ تعالى ـ فلا يفتقر شىء من صفاته وأفعاله على غيره، بل هو الأحد الصمد المستغنى عن كل ما سواه، وكل ما سواه مفتقر إليه مصنوع له، فيمتنع أن يكون الرب مفتقرًا إليه، فإن ذلك هو الدور القبلي الممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء. فهذا تقرير هذه الحجة الدالة على قدم الكلام، وأنه لم يزل متكلمًا، وهي تدل أيضًا على قدم جميع صفاته، وأن ذاته القديمة مستلزمة لصفات الكمال الممكنة، فكل صفة كمال لا نقص فيه فإن الرب يتصف بها، واتصافه بها من لوازم ذاته، ولم يزل موصوفًا بصفات الكمال، وذاته هي المستلزمة لصفات كماله، لا يجوز أن يحتاج في ثبوت صفات الكمال له إلى غيره، والكلام صفة كمال، فإن من يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، كما أن من يعلم ويقدر أكمل ممن لا يعلم ولا يقدر، والذي يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وأكمل ممن تكلم بغير مشيئته وقدرته إن كان ذلك معقولاً. ويمكن تقريرها على أصول السلف بأن يقال: إما أن يكون قادرًا على الكلام أو غير قادر فإن لم يكن قادرًا فهو الأخرس، وإن كان قادرًا ولم يتكلم فهو الساكت. وأما الكُلاَّبية، فالكلام عندهم ليس بمقدور، فلا يمكنهم أن يحتجوا بهذه، فيقال: هذه قد دلت على قدم الكلام، لكن مدلولها قدم كلام معين بغير قدرته ومشيئته؟ أم مدلولها أنه لم يزل متكلمًا بمشيئته وقدرته؟ والأول قول الكُلاَّبية، والثاني قول السلف والأئمة وأهل الحديث والسنة. فيقال: مدلولها الثاني، لا الأول، لأن إثبات كلام يقوم بذات المتكلم بدون مشيئته وقدرته غير معقول ولا معلوم، والحكم على الشىء فرع عن تصوره. فيقال للمحتج بها: لا أنت ولا أحد من العقلاء يتصور كلامًا يقوم بذات المتكلم، بدون مشيئته وقدرته، فكيف تثبت بالدليل المعقول شيئًا لا يعقل. وأيضًا، فقولك: لو لم يتصف بالكلام لاتصف بالخرس والسكوت، إنما يعقل في الكلام بالحروف والأصوات، فإن الحي إذا فقدها لم يكن متكلمًا، فإما أن يكون قادرًا على الكلام ولم يتكلم، وهو الساكت. وإما ألا يكون قادرًا عليه وهو الأخرس. وأما ما يدعوه من الكلام النفساني، فذلك لا يعقل أن من خلا عنه كان ساكتًا أو أخرس، فلا يدل بتقدير ثبوته على أن الخالي عنه يجب أن يكون ساكتًا أو أخرس. وأيضًا، فالكلام القديم النفساني الذي أثبتموه،لم تثبتوا ما هو؟ بل ولا تصورتموه، وإثبات الشىء فرع تصوره، فمن لم يتصور ما يثبته كيف يجوز أن يثبته؟ ولهذا كان أبو سعيد بن كُلاب ـ رأس هذه الطائفة وإمامها في هذه المسألة ـ لا يذكر في بيانها شىء يعقل، بل يقول: هو معنى يناقض السكوت والخرس. والسكوت والخرس إنما يتصوران إذا تصور الكلام، فالساكت هو الساكت عن الكلام، والأخرس هو العاجز عنه، أو الذي حصلت له آفة في محل النطق تمنعه عن الكلام، وحينئذ فلا يعرف الساكت والأخرس حتى يعرف الكلام، ولا يعرف الكلام حتى يعرف الساكت والأخرس. فتبين أنهم لم يتصوروا ما قالوه ولم يثبتوه، بل هم في الكلام يشبهون النصارى في الكلمة وما قالوه في [الأقانيم] و[التثليث] و[الاتحاد] فإنهم يقولون ما لا يتصورونه ولا يبينونه، والرسل ـ عليهم السلام ـ إذا أخبروا بشىء ولم نتصوره وجب تصديقهم. وأما ما يثبت بالعقل فلابد أن يتصوره القائل به وإلا كان قد تكلم بلا علم، فالنصارى تتكلم بلا علم، فكان كلامهم متناقضًا ولم يحصل لهم قول معقول، كذلك من تكلم في كلام الله بلا علم كان كلامه متناقضًا ولم يحصل له قول يعقل؛ ولهذا كان مما يشنع به علي هؤلاء أنهم احتجوا في أصل دينهم ومعرفة حقيقة الكلام ـ كلام الله، وكلام جميع الخلق ـ بقول شاعر نصراني يقال له: الأخْطَل: إن الكلام لفى الفؤاد وإنما ** جعل اللسان على الفؤاد دليلاً وقد قال طائفة: إن هذا ليس من شعره، وبتقدير أن يكون من شعره، فالحقائق العقلية، أو مسمى لفظ الكلام الذي يتكلم به جميع بني آدم، لا يرجع فيه إلى قول ألف شاعر فاضل، دع أن يكون شاعرًا نصرانيًا اسمه الأخطل، والنصارى قد عرف أنهم يتكلمون في كلمة الله بما هو باطل، والخطل في اللغة هو الخطأ في الكلام، وقد أنشد فيهم المنشد: قبحًا لمن نبذ القرآن وراءه ** فإذا استدل يقول قال الأخطل ولما احتج الكُلاَّبيّة بهذه الحجة، عارضتهم المعتزلة فقالوا: الكلام عندنا كالفعل عندنا وعندكم، وهو في الأزل عندنا جميعًا لم يكن فاعلاً ثم صار فاعلاً، ولا نقول نحن وأنتم: كان في الأزل عاجزًا أو ساكتًا، فكما أنه لم يكن فاعلاً ولا يوصف بضد الفعل وهو العجز أو السكوت، فكذلك لم يكن متكلمًا ولا يوصف بضد الكلام وهو السكوت أو الخرس. فإذا قال هؤلاء للمعتزلة والجهمية: الفعل لا يقوم به عندنا وعندكم، والكلام يقوم به، فكان كالصفات، منعتهم المعتزلة ذلك، وقالوا: الكلام عندنا كالفعل لا يقوم به لا هذا، ولا هذا، فإذا قالوا: لو لم يقم به الكلام لقام بغيره وكان الكلام صفة لذلك الغير، انتقلوا إلى الحجة الثانية، ولم يمكن تقرير الأولى إلا بالثانية، فكان الاستدلال بالأولى وجعلها حجة ثانية باطلاً؛ ولهذا أعرض عنه كثير من متأخريهم، وإنما اعتمدوا على الثانية كأبي المعالي وأتباعه. وهذا السؤال لا يلزم السلف، فإنهم إذا قالوا: الكلام كالفعل، وهو في الأزل لم يكن فاعلاً، لا عندنا ولا عندكم، منعهم السلف وجمهور المسلمين هذا، وقالوا: بل لم يزل خالقًا فاعلاً، كما عليه السلف وجمهور طوائف المسلمين. وهو الذي ذكره أصحاب ابن خُزَيْمَةَ مما كتبوه له وكانوا كُلاَّبية، فإما أن يكون هذا قول ابن كلاب، أو قول طائفة من أصحابه، وبهذا تستقيم لهم هذه الحجة، وإلا فمن سلم أنه صار فاعلاً بعد أن لم يكن، كانت هذه الحجة منتقضة على أصله، وقال منازعوه: الكلام في مقاله كالكلام في فعاله. والقول بأن الخلق غير المخلوق، وأنه فعل يقوم بالرب، هو قول أكثر المسلمين، هو قول الحنفية وأكثر الحنبلية، وإليه رجع القاضي أبو يعلى أخيرًا، وهو الذي حكاه البغوي عن أهل السنة، وهو الذي ذكره أبو بكر الكلاباذي عن الصوفية، وذكره في كتاب [التعرف لمذهب التصوف]، وهو الذي ذكره البخاري في كتاب [أفعال العباد] إجماعًا من العلماء، وهو الذي ذكره ابن عبد البر وغيره عن أهل السنة. لكن الفعل: هل هو شىء واحد قديم كالإرادة ؟ أو هو حادث بذاته؟ أو هو نوع لم يزل متصفًا به؟ فيه ثلاثة أقوال للمسلمين، وكلهم متفقون على أن كل ما سوى الله مُحْدَث مخلوق، كما تواتر ذلك عن الأنبياء ودلت عليه الدلائل العقلية، والقول بأن مع الله شيئًا قديمًا تقدمه من مفعولاته ـ كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة ـ باطل عقلاً وشرعًا، كما قد بسط في مواضع. فإن قيل: إذا قلتم: لم يزل متكلمًا بمشيئته لزم وجود كلام لا ابتداء له، وإذا لم يزل متكلمًا وجب ألاَّ يزال كذلك، فيكون متكلمًا بكلام لا نهاية له،وذلك يستلزم وجود ما لا يتناهى من الحوادث،فإن كل كلمة مسبوقة بأخرى فهي حادثة، ووجود ما لا يتناهى محال. قيل له: هذا الاستلزام حق، وبذلك يقولون: إن كلمات الله لا نهاية لها، كما قال تعالى: وأما قولهم: وجود ما لا يتناهى من الحوادث محال، فهذا بناء على دليلهم الذي استدلوا به على حدوث العالم وحدوث الأجسام، وهو أنها لا تخلو من الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، وهذا الدليل باطل عقلاً وشرعًا، وهو أصل الكلام الذي ذمه السلف والأئمة، وهو أصل قول الجهمية نفاة الصفات، وقد تبين فساده في مواضع. ولكن سنبين ـ إن شاء الله ـ أن هذا الدليل إذا ميز بين حقه وباطله، فإنه يدل على حدوث ما سوى الله ـ وعلى مذهب السلف ـ وكان غلطة منهم، وقولهم: كل ما لا يخلو من الحوادث ـ أي من الممكنات المفتقرة ـ فهو حادث، فأخذوا هذا قضية كلية، وقاسوا فيها الخالق على المخلوق قياسًا فاسدًا، كما أن أولئك قالوا: القابل للشىء لا يخلو عنه وعن ضده، أخذوها قضية كلية. والغلط في القياس يقع من تشبيه الشىء بخلافه، وأخذ القضية الكلية باعتبار القدر المشترك من غير تمييز بين نوعيها، فهذا هو القياس الفاسد، كقياس الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا، وقياس إبليس. ونحو ذلك من الأقيسة الفاسدة، التي قال فيها بعض السلف: أول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس، يعني: قياس من يعارض النص ومن قاس قياسًا فاسدًا، وكل قياس عارض النص فإنه لا يكون إلا فاسدًا، وأما القياس الصحيح فهو من الميزان الذي أنزله الله، ولا يكون مخالفًا للنص قط، بل موافقًا له. ومن هنا يظهر ـ أيضًا ـ أن ما عند المتفلسفة من الأدلة الصحيحة العقلية، فإنما يدل على مذهب السلف أيضًا، فإن عمدتهم في قدم العالم على أن الرب لم يزل فاعلاً، وأنه يمتنع أن يصير فاعلاً بعد أن لم يكن، وأن يصير الفعل ممكنًا له بعد أن لم يكن، وأنه يمتنع أن يصيرقادرًا بعد أن لم يكن، وهذا وجميع ما احتجوا به إنما يدل على قدم نوع الفعل، لا يدل على قدم شىء من العالم لا فلك ولا غيره. فإذا قيل: إنه لم يزل فاعلاً بمشيئته وقدرته، وإن الفعل من لوازم الحياة ـ كما قال ذلك من قاله من أئمة السنة ـ كان هذا قولاً بموجب جميع أدلتهم الصحيحة العقلية، وكان هذا موافقًا لقول السلف: لم يزل متكلمًا إذا شاء. فلم يزل متكلمًا إذا شاء، فاعلاً لما يشاء. وجميع ما احتج به الكُلاَّبية، والأشعرية، والسالمية وغيرهم، على قدم الكلام، إنما يدل على أنه لم يزل متكلمًا إذا شاء، لا يدل على قدم كلام بلا مشيئة، ولا على قدم كلام معين، بل على قدم نوع الكلام. وجميع ما يحتج به الفلاسفة على قدم الفاعلية، إنما يدل على أنه لم يزل فاعلا لما يشاء، لا يدل على قدم فعل معين، ولا مفعول معين، لا الفلك ولا غيره. والغلط إنما نشأ بين الفريقين من اشتباه النوع الدائم بالعين المعينة، ثم إن أولئك قالوا: يمتنع قدم نوع الحركة والفعل لامتناع حوادث لا أول لها، فأبطلوا كون الرب لم يزل متكلمًا بمشيئته، ولم يزل فاعلاً بمشيئته، بل يلزمهم أنه لم يكن قادرًا على الفعل ثم صار قادرًا، ولم يكن ـ أيضًاـ قادرًا على الكلام بمشيئته. ثم منهم من يقول: صار قادرًا على الكلام بمشيئته بعد أن لم يكن كالكرامية، ومنهم من يقول لم يصر قادرًا على الكلام ولا يمكنه الكلام بمشيئته قط، وهم الكلاَّبية، ومن وافقهم من الأشعرية، والسالمية. وأما الفلاسفة، فقالوا ما قاله مقدمهم أرسطو. فكل من قال: إن جنس الحركة حدثت بعد أن لم تكن، فإنه مكابر لعقله. وقالوا: يمتنع ذلك في جنس الحوادث بعد أن لم تكن بلا سبب حادث، والعلم بذلك ضروري. فيقال لهم: هذا يدل على أنه لم يزل هذا النوع موجودًا، لا يدل على قدم عين حركة الفلك، وكذلك القول في الزمان والجسم، فإن أدلتهم تقتضى أنه لم يزل موجودًا: حركة وقدرها وهو الزمان،وفاعلها هو الذي يسمونه الجسم، لكن لا يقتضي قدم شىء بعينه. فإذا قيل: إن رب العالمين لم يزل متكلمًا بمشيئته فاعلا لما يشاء،كان نوع الفعل لم يزل موجودًا وقدره وهو الزمان موجودًا،لكن أرسطو وأتباعه غلطوا،حيث ظنوا أنه لا زمان إلا قدر حركة الفلك، وأنه لا حركة فوق الفلك ولا قبله، فتعين أن تكون حركته أزلية. وهذا ضلال منهم عقلاً وشرعًا. فلا دليل يدل على امتناع حركة فوق الفلك وقبل الفلك، ودليلهم على انشقاق الفلك في غاية الفساد كما قد بسط في موضع آخر، وكذلك قوله: إنه لابد لكل حركة من محرك غير متحرك، في غاية الفساد كما قد بسط في موضعه. والمقصود هنا التنبيه على أن خلاصة ما عند هؤلاء الذين يقال: إنهم أئمة المعقولات من أئمة الكلام والفلسفة، إنما يدل على قول السلف وأهل السنة المتبعين للكتاب والسنة، فالأدلة الصحيحة التي عندهم إنما تدل على هذا، ولكن التبس عليهم الحق بالباطل، كما أن أهل الكتاب لبسوا الحق بالباطل، وما عندهم من الحق موافق ما جاء به الرسول الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، لا يخالف ذلك، فالأدلة السمعية التي جاءت بها الأنبياء لا تتناقض، وكذلك الأدلة الصحيحة العقلية، ولا تتناقض السمعيات والعقليات، والله أعلم.
|