الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
فَصْــل في الاسم والمسمى هل هو هو، أو غيره؟ أو لا يقال: هو هو، ولا يقال: هو غيره؟ أو هو له؟ أو يفصل في ذلك؟ فإن الناس قد تنازعوا في ذلك، والنزاع اشتهر في ذلك بعد الأئمة، بعد أحمد وغيره، والذي كان معروفًا عند أئمة السنة أحمد وغيره: الإنكار على الجهمية الذين يقولون: أسماء الله مخلوقة. فيقولون: الاسم غير المسمى، وأسماء الله غيره وما كان غيره فهو مخلوق. وهؤلاء هم الذين ذمهم السلف وغلظوا فيهم القول؛ لأن أسماء الله من كلامه، وكلام الله غير مخلوق؛ بل هو المتكلم به، وهو المسمى لنفسه بما فيه من الأسماء. والجهمية يقولون: كلامه مخلوق، وأسماؤه مخلوقة، وهو نفسه لم يتكلم بكلام يقوم بذاته، ولا سَمَّى نفسه باسم هو المتكلم به، بل قد يقولون: إنه تكلم به، وسمى نفسه بهذه الأسماء، بمعنى أنه خلقها في غيره، لا بمعنى أنه نفسه تكلم بها الكلام القائم به، فالقول في أسمائه هو نوع من القول في كلامه. والذين وافقوا السلف على أن كلامه غير مخلوق وأسماءه غير مخلوقة، يقولون: الكلام والأسماء من صفات ذاته، لكن هل يتكلم بمشيئته وقدرته، ويسمى نفسه بمشيئته وقدرته؟ هذا فيه قولان: النفي: هو قول ابن كُلاَّب ومن وافقه. والإثبات: قول أئمة أهل الحديث والسنة وكثير من طوائف أهل الكلام، كالهشامية والكَرّامية وغيرهم، كما قد بسط هذا في مواضع. والمقصود هنا أن المعروف عن أئمة السنة إنكارهم على من قال: أسماء الله مخلوقة، وكان الذين يطلقون القول بأن الاسم غير المسمى هذا مرادهم؛ فلهذا يروي عن الشافعي والأصمعي وغيرهما أنه قال: إذا سمعت الرجل يقول: الاسم غير المسمى فاشهد عليه بالزندقة، ولم يعرف ـ أيضًا ـ عن أحد من السلف أنه قال: الاسم هو المسمى، بل هذا قاله كثير من المنتسبين إلى السنة بعد الأئمة، وأنكره أكثر أهل السنة عليهم. ثم منهم من أمسك عن القول في هذه المسألة نفيا وإثباتًا؛ إذ كان كل من الإطلاقين بدعة كما ذكره الخلال عن إبراهيم الحربي وغيره، وكما ذكره أبو جعفر الطبرى في الجزء الذي سماه صريح السنة، ذكر مذهب أهل السنة المشهور في القرآن، والرؤية، والإيمان والقدر، والصحابة وغير ذلك. وذكر أن [مسألة اللفظ] ليس لأحد من المتقدمين فيها كلام، كما قال: لم نجد فيها كلامًا عن صحابي مضى ولا عن تابعي قَفَا، إلا عمن في كلامه الشفاء والغَنَاء، ومن يقوم لدينا مقام الأئمة الأولى أبو عبد الله أحمد بن حنبل، فإنه كان يقول:اللفظية جهمية. ويقول: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق، فهو مبتدع. وذكر أن القول في الاسم والمسمى من الحماقات المبتدعة التي لا يعرف فيها قول لأحد من الأئمة، وأن حسب الإنسان أن ينتهي إلى قوله تعالى: والذين قالوا: الاسم هو المسمى كثير من المنتسبين إلى السنة، مثل أبي بكر عبد العزيز، وأبي القاسم الطبري، واللالَكائي، وأبي محمد البغوي صاحب [شرح السنة] وغيرهم، وهو أحد قولي أصحاب أبي الحسن الأشعري اختاره أبو بكر بن فُورَك وغيره. والقول الثاني ـ وهو المشهور عن أبي الحسن ـ: أن الأسماء ثلاثة أقسام: تارة يكون الاسم هو المسمى كاسم الموجود، وتارة يكون غير المسمى كاسم الخالق، وتارة لا يكون هو ولا غيره كاسم العليم والقدير. وهؤلاء الذين قالوا: إن الاسم هو المسمى، لم يريدوا بذلك أن اللفظ المؤلف من الحروف هو نفس الشخص المسمى به فإن هذا لا يقوله عاقل؛ ولهذا يقال: لو كان الاسم هو المسمى لكان من قال [نار] احترق لسانه. ومن الناس من يظن أن هذا مرادهم، ويشنع عليهم، وهذا غلط عليهم؛ بل هؤلاء يقولون: اللفظ هو التسمية، والاسم ليس هو اللفظ؛ بل هو المراد باللفظ فإنك إذا قلت: يا زيد، يا عمرو، فليس مرادك دعاء اللفظ، بل مرادك دعاء المسمى باللفظ، وذكرت الاسم فصار المراد بالاسم هو المسمى. وهذا لا ريب فيه إذا أخبر عن الأشياء فذُكِرَتْ أسماؤها،فقيل: وكذلك إذا قيل: جاء زيد وأشهد على عمرو، وفلان عدل ونحو ذلك، فإنما تذكر الأسماء والمراد بها المسميات، وهذا هو مقصود الكلام. فلما كانت أسماء الأشياء إذا ذكرت في الكلام المؤلف فإنما المقصود هو المسميات، قال هؤلاء: الاسم هو المسمى وجعلوا اللفظ هو الاسم عند الناس هو التسمية، كما قال البغوي: والاسم هو المسمى وعينه وذاته. قال الله تعالى: قال: ثم يقال: للتسمية ـ أيضًا ـ اسم. واستعماله في التسمية أكثر من المسمى. وقال أبو بكر بن فورك: اختلفت الناس في حقيقة الاسم، ولأهل اللغة في ذلك كلام، ولأهل الحقائق فيه بيان، وبين المتكلمين فيه خلاف. فأما أهل اللغة فيقولون: الاسم حروف منظومة دالة على معنى مفرد، ومنهم من يقول: إنه قول يدل على مذكور يضاف إليه؛ يعني: الحديث والخبر. قال: وأما أهل الحقائق فقد اختلفوا ـ أيضًا ـ في معنى ذلك، فمنهم من قال: اسم الشىء هو ذاته وعينه، والتسمية عبارة عنه ودلالة عليه، فيسمى اسمًا توسعًا. وقالت الجهمية والمعتزلة: الأسماء والصفات: هي الأقوال الدالة على المسميات، وهو قريب مما قاله بعض أهل اللغة. والثالث: لا هو هو، ولا هو غيره، كالعلم والعالم، ومنهم من قال: اسم الشىء هو صفته ووصفه. قال: والذي هو الحق عندنا: قول من قال:اسم الشىء هو عينه وذاته،واسم الله هو الله، وتقدير قول القائل: بسم الله أفعل، أي: بالله أفعل، وأنه اسمه هو هو. قال: وإلى هذا القول ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام واستدل بقول لَبِيد: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ** ك حولاً كاملاً فقد اعتذر والمعنى: ثم السلام عليكما، فإن اسم السلام هو السلام. قال: واحتج أصحابنا في ذلك بقوله تبارك وتعالى: وبأن الفقهاء أجمعوا على أن الحالف باسم الله كالحالف بالله، في بيان أنه تنعقد اليمين بكل واحد منهما؛ فلو كان اسم الله غير الله لكان الحالف بغير الله لا تنعقد يمينه، فلما انعقد، ولزم بالحنْث فيها كفارة دل على أن اسمه هو. ويدل عليه أن القائل إذا قال: ما اسم معبودكم؟ قلنا: الله. فإذا قال:وما معبودكم؟ قلنا: الله، فنجيب في الاسم بما نجيب به في المعبود، فدل على أن اسم المعبود هو المعبود لا غير، وبقوله: قال: فإن قيل: أليس يقال: الله إله واحد وله أسماء كثيرة، فكيف يكون الواحد كثيرًا؟ قيل: إذا أطلق أسماء، فالمراد به مسميات المسمين، والشىء قد يسمى باسم دلالته كما يسمى المقدور قدرة. قال: فعلى هذا يكون معنى قوله: باسم الله، أي بالله، والباء معناها الاستعانة وإظهار الحاجة، وتقديره: بك أستعين وإليك أحتاج، وقيل: تقدير الكلمة: أبتدئ أو أبدأ باسمك فيما أقول وأفعل. قلت: لو اقتصروا على أن أسماء الشىء إذا ذكرت في الكلام فالمراد بها المسميات ـ كما ذكروه في قوله: {يَا يَحْيَى} [مريم:12]،ونحو ذلك ـ لكان ذلك معني واضحًا لا ينازعه فيه من فهمه، لكن لم يقتصروا على ذلك؛ ولهذا أنكر قولهم جمهور الناس من أهل السنة وغيرهم؛ لما في قولهم من الأمور الباطلة، مثل دعواهم أن لفظ اسم الذي هو [أ س م] معناه: ذات الشىء ونفسه، وأن الأسماء ـ التي هي الأسماء ـ مثل: زيد وعمرو هي التسميات، ليست هي أسماء المسميات، وكلاهما باطل مخالف لما يعلمه جميع الناس من جميع الأمم ولما يقولونه. فإنهم يقولون: إن زيدًا وعمرًا ونحو ذلك هي أسماء الناس، و التسمية: جعل الشىء اسمًا لغيره هي مصدر سميته تسمية إذا جعلت له اسمًا، والاسم: هو القول الدال على المسمى، ليس الاسم الذي هو لفظ اسم هو المسمى، بل قد يراد به المسمى؛ لأنه حكم عليه ودليل عليه. وأيضًا، فهم تكلفوا هذا التكليف ليقولوا: إن اسم الله غير مخلوق، ومرادهم أن الله غير مخلوق، وهذا مما لا تنازع فيه الجهمية والمعتزلة. فإن أولئك ما قالوا الأسماء مخلوقة إلا لما قال هؤلاء: هي التسميات، فوافقوا الجهمية والمعتزلة في المعنى، ووافقوا أهل السنة في اللفظ، ولكن أرادوا به مالم يسبقهم أحد إلى القول به من أن لفظ اسم وهو [ألف سين ميم] معناه: إذا أطلق هو الذات المسماه، بل معنى هذا اللفظ هي الأقوال التي هي أسماء الأشياء، مثل زيد وعمرو، وعالم وجاهل. فلفظ الاسم لا يدل على أن هذه الأسماء هي مسماه. ثم قد عرف أنه إذا أطلق الاسم في الكلام المنظوم فالمراد به المسمى، فلهذا يقال: ما اسم هذا؟ فيقال: زيد. فيجاب باللفظ، ولا يقال: ما اسم هذا؟ فيقال:هو هو، وما ذكروه من الشواهد حجة عليهم. أما قوله: وأما قوله: وقرأ ابن عامر: وأما قوله: وقد قال بعض الناس: إن ذكر الاسم هنا صلة، والمراد: تبارك ربك، ليس المراد الإخبار عن اسمه بأنه تبارك، وهذا غلط، فإنه على هذا يكون قول المصلى: تبارك اسمك أي: تباركت أنت، و نفس أسماء الرب لا بركة فيها. ومعلوم أن نفس أسمائه مباركة وبركتها من جهة دلالتها على المسمى. ولهذا فرقت الشريعة بين ما يذكر اسم الله عليه، وما لا يذكر اسم الله عليه في مثل قوله: وأما قوله تعالى: والرب ـ تعالى ـ نفى ما كانوا يعتقدونه، وأثبت ضده، ولكن المراد: أنهم سموها آلهة، واعتقدوا ثبوت الإلهية فيها، وليس فيها شىء من الإلهية. فإذا عبدوها معتقدين إلهيتها مسمين لها آلهة لم يكونوا قد عبدوا إلا أسماء ابتدعوها هم، ما أنزل الله بها من سلطان؛ لأن الله لم يأمر بعبادة هذه ولا جعلها آلهة كما قال: ولهذا قال في الآية الأخرى: وأما قولهم: إن الاسم يراد به التسمية وهو القول، فهذا الذي جعلوه هم تسمية هو الاسم عند الناس جميعهم، والتسمية جعله اسما والإخبار بأنه اسم ونحو ذلك، وقد سلموا أن لفظ الاسم أكثر ما يراد به ذلك، وادعوا أن لفظ الاسم الذي هو [ألف سين ميم]:هو في الأصل ذات الشىء، ولكن التسمية سميت اسما لدلالتها على ذات الشيء، تسمية للدال باسم المدلول، ومثلوه بلفظ القدرة، و ليس الأمر كذلك، بل التسمية مصدر سمى يسمى تسمية، والتسمية نطق بالاسم وتكلم به، ليست هي الاسم نفسه، وأسماء الأشياء: هي الألفاظ الدالة عليها، ليست هي أعيان الأشياء. وتسمية المقدور قدرة، هو من باب تسمية المفعول باسم المصدر، وهذا كثير شائع في اللغة، كقولهم للمخلوق: خلق، وقولهم: درهم ضرب الأمير، أي: مضروب الأمير، ونظائره كثيرة. وابن عطية سلك مسلك هؤلاء وقال: الاسم الذي هو [ألف وسين وميم] يأتي في مواضع من الكلام الفصيح يراد به المسمى، ويأتي في مواضع يراد به التسمية، نحو قوله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسْعَة وتسعين اسمًا) وغير ذلك، ومتى أريد به المسمى فإنما هو صلة كالزائد، كأنه قال في هذه الآية، سبح ربك الأعلى، أي: نزهه. قال: وإذا كان الاسم واحد والأسماء كزيد وعمرو، فيجىء في الكلام على ما قلت لك. تقول: زيد قائم، تريد المسمى، وتقول: زيد ثلاثة أحرف، تريد التسمية نفسها، على معنى: نزه اسم ربك عن أن يسمى به صَنَم أو وَثَن [قيل: الصنم هو الوثن، وقيل: الصنم المتخذ من الجواهر المعدنية التي تذوب، والوثن هو المتخذ من حجر أو خشب، وقيل غير ذلك. انظر: المصباح المنير، مادة: صنم]. فيقال له: إله أو رب. قلت: هذا الذي ذكروه لا يعرف له شاهد، لا من كلام فصيح ولا غير ذلك، ولا يعرف أن لفظ اسم [ألف سين ميم] يراد به المسمى، بل المراد به الاسم الذي يقولون هو التسمية. وأما قوله: تقول: زيد قائم، تريد المسمى. فزيد ليس هو (ألف سين ميم) بل زيد مسمى هذا اللفظ، فزيد يراد به المسمى، ويراد به اللفظ. وكذلك اسم [ألف سين ميم] يراد به هذا اللفظ، ويراد به معناه، وهو لفظ زيد وعمرو وبكر، فتلك هي الأسماء التي تراد بلفظ اسم؛ لا يراد بلفظ اسم نفس الأشخاص؛ فهذا ما أعرف له شاهدًا صحيحًا، فضلاً عن أن يكون هو الأصل، كما ادعاه هؤلاء. قال تعالى: وما ذكروه من أن القائل إذا قال: ما اسم معبودكم؟ قلنا: الله،فنجيب في الاسم بما نجيب به في المعبود، فدل على أن اسم المعبود هو المعبود حجة باطلة، وهي عليهم لا لهم. فإن القائل إذا قال: ما اسم معبودكم؟ فقلنا:الله، فالمراد أن اسمه هو هذا القول، ليس المراد أن اسمه هو ذاته وعينه الذي خلق السموات والأرض، فإنه إنما سأل عن اسمه لم يسأل عن نفسه، فكان الجواب بذكر اسمه. وإذا قال: ما معبودكم؟ فقلنا: الله، فالمراد هناك المسمى، ليس المراد أن المعبود هو القول، فلما اختلف السؤال في الموضعين اختلف المقصود بالجواب، وإن كان في الموضعين قال: الله، لكنه في أحدهما أريد هذا القول الذي هو من الكلام، وفي الآخر أريد به المسمى بهذا القول. كما إذا قيل: ما اسم فلان؟ فقيل: زيد أو عمرو، فالمراد هو القول. وإذا قال: من أميركم أو من أنكحت؟ فقيل: زيد أو عمرو، فالمراد به الشخص، فكيف يجعل المقصود في الموضعين واحدًا. ولهذا قال تعالى: وفي حديث أنس الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نَقْشُ خاتمه: ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه) ، فمعلوم أن المراد: تحرك شفتاه بذكر اسم الله، وهو القول، ليس المراد: أن الشفتين تتحرك بنفسه ـ تعالى. وأما احتجاجهم بقوله: منهم من قال: [الاسم] هنا صلة والمراد: سبح ربك، وتبارك ربك. وإذا قيل: هو صلة فهو زائد لا معنى له، فيبطل قولهم أن مدلول لفظ اسم [ألف سين ميم] هو المسمى، فإنه لو كان له مدلول مراد لم يكن صلة. ومن قال: إنه هو المسمى وأنه صلة، كما قاله ابن عطية، فقد تناقض، فإن الذي يقول: هو صلة، لا يجعل له معنى، كما يقوله من يقول ذلك في الحروف الزائدة التي تجىء للتوكيد، كقوله: ومن قال: إنه ليس بصلة، بل المراد تسبيح الاسم نفسه، فهذا مناقض لقولهم مناقضة ظاهرة. والتحقيق أنه ليس بصلة، بل أمر الله بتسبيح اسمه، كما أمر بذكر اسمه. والمقصود بتسبيحه وذكره: هو تسبيح المسمى وذكره، فإن المسبح والذاكر إنما يسبح اسمه ويذكر اسمه، فيقول: سبحان ربي الأعلى، فهو نطق بلفظ: [ربي الأعلى]، والمراد هو المسمى بهذا اللفظ، فتسبيح الاسم هو تسبيح المسمى، ومن جعله تسبيحًا للاسم يقول: المعنى: أنك لا تسم به غير الله، ولا تلحد في أسمائه، فهذا مما يستحقه اسم الله، لكن هذا تابع للمراد بالآية ليس هو المقصود بها القصد الأول. وقد ذكر الأقوال الثلاثة غير واحد من المفسرين، كالبغوي، قال: قوله: قلت في ذلك حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم:أنه لما نزل وفي السنن عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم:(إذا قال العبد في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاثًا، فقد تم ركوعه، وذلك أدناه،وإذا قال في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاثًا، فقد تم سجوده،وذلك أدناه)، وقد أخذ بهذا جمهور العلماء. قال البغوي: وقال قوم: معناه: نزه ربك الأعلى عما يصفه به الملحدون. وجعلوا الاسم صلة. قال: ويحتج بهذا من يجعل الاسم والمسمى واحدًا؛ لأن أحدًا لا يقول: سبحان اسم الله وسبحان اسم ربنا؛ إنما يقولون: سبحان الله، وسبحان ربنا. وكان معنى قلت: قد تقدم الكلام على هذا، والذي: يقول: سبحان الله،وسبحان ربنا، إنما نطق بالاسم الذي هو الله، والذي هو ربنا فتسبيحه إنما وقع على الاسم، لكن مراده هو المسمى، فهذا يبين أنه ينطق باسم المسمى والمراد المسمى، وهذا لا ريب فيه، لكن هذا لا يدل على أن لفظ اسم الذي هو [ألف سين ميم] المراد به المسمى. لكن يدل على أن [أسماء الله] مثل: الله، وربنا، وربي الأعلى ونحو ذلك، يراد بها المسمى، مع أنها هي في نفسها ليست هي المسمى، لكن يراد بها المسمى، فأما اسم هذه الأسماء [ألف سين ميم] فلا هو المسمى الذي هو الذات، ولا يراد به المسمى الذي هو الذات، ولكن يراد به مسماه الذي هو الأسماء، كأسماء الله الحسنى، في قوله: والذين شاركوهم في هذا الأصل وقالوا: الأسماء ثلاثة، قد تكون هي المسمى، وقد تكون غيره، وقد تكون لا هي هو ولا غيره، وجعلوا الخالق والرازق ونحوهما غير المسمى، وجعلوا العليم والحكيم ونحوهما للمسمى غلطوا من وجه آخر؛ فإنه إذا سلم لهم أن المراد بالاسم الذي هو [ألف سين ميم] هو مسمى الأسماء، فاسمه الخالق هو الرب الخالق نفسه، ليس هو المخلوقات المنفصلة عنه، واسمه العليم هو الرب العليم الذي العلم صفة له، فليس العلم هو المسمى، بل المسمى هو العليم، فكان الواجب أن يقال على أصلهم:الاسم هنا هو المسمى وصفته، وفي الخالق الاسم هو المسمى وفعله. ثم قولهم إن الخلق هو المخلوق، وليس الخلق فعلاً قائمًا بذاته، قول ضعيف، مخالف لقول جمهور المسلمين، كما قد بسط في موضعه. فتبين أن هؤلاء الذين قالوا: [الاسم هو المسمى]، إنما يسلم لهم أن أسماء الأشياء إذا ذكرت في الكلام أريد به المسمى، وهذا ما لا ينازع فيه أحد من العقلاء، لا أن لفظ اسم [ألف، سين، ميم] يراد به الشخص. وما ذكروه من قول لبيد: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما فمراده: ثم النطق بهذا الاسم وذكره وهو التسليم المقصود، كأنه قال: ثم سلام عليكم، ليس مراده أن السلام يحصل عليهما بدون أن ينطق به، ويذكر اسمه. فإن نفس السلام قول، فإن لم ينطق به ناطق ويذكره لم يحصل. وقد احتج بعضهم بقول سيبويه: إن الفعل أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبنى لما مضى ولما لم يكن بعد، وهذا لا حجة فيه؛ لأن سيبويه مقصوده بذكر الاسم والفعل ونحو ذلك الألفاظ. وهذا اصطلاح النحويين، سموا الألفاظ بأسماء معانيها؛ فسموا قام ويقوم وقم فعلا؛ والفعل هو نفس الحركة؛ فسموا اللفظ الدال عليها باسمها. وكذلك إذا قالوا: اسم معرب ومبني، فمقصودهم اللفظ، ليس مقصودهم المسمى، وإذا قالوا: هذا الاسم فاعل فمرادهم أنه فاعل في اللفظ، أي أسند إليه الفعل، ولم يرد سيبويه بلفظ الأسماء المسميات كما زعموا، ولو أراد ذلك فسدت صناعته.
وأما الذين قالوا: إن الاسم غير المسمى، فهم إذا أرادوا أن الأسماء التي هي أقوال ليست نفسها هي المسميات، فهذا ـ أيضًا ـ لا ينازع فيه أحد من العقلاء. وأرباب القول الأول لا ينازعون في هذا، بل عبروا عن الأسماء هنا بالتسميات، وهم ـ أيضًا ـ لا يمكنهم النزاع في أن الأسماء المذكورة في الكلام، مثل قوله: يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، إنما أريد بها نداء المسمين بهذه الأسماء. وإذا قيل: خلق الله السموات والأرض، فالمراد خلق المسمى بهذه الألفاظ، لم يقصد أنه خلق لفظ السماء ولفظ الأرض، والناس لا يفهمون من ذلك إلا المعنى المراد به، ولا يخطر بقلب أحد إرادة الألفاظ، لما قد استقر في نفوسهم من أن هذه الألفاظ والأسماء يراد بها المعاني والمسميات، فإذا تكلم بها فهذا هو المراد، لكن لا يعلم أنه المراد إن لم ينطق بالألفاظ والأسماء المبينة للمراد الدالة عليه. وهذا من البيان الذي أنعم الله به على بني آدم في قوله: ولكن هؤلاء الذين أطلقوا ـ من الجهمية والمعتزلة ـ أن الاسم غير المسمى، مقصودهم أن أسماء الله غيره، وما كان غيره فهو مخلوق. ولهذا قالت الطائفة الثالثة: لا نقول: هي المسمى ولا غير المسمى. فيقال لهم: قولكم: إن أسماءه غيره،مثل قولكم: إن كلامه غيره، وإن إرادته غيره، ونحو ذلك، وهذا قول الجهمية نفاة الصفات، وقد عرفت شبههم وفسادها في غير هذا الموضع، وهم متناقضون من وجوه، كما قد بسط في مواضع. فإنهم يقولون: لا نثبت قديما غير الله، أو قديما ليس هو الله، حتى كفروا أهل الإثبات، وإن كانوا متأولين، كما قال أبو الهُذَيْل: إن كل متأول كان تأويله تشبيهًا له بخلقه، و تجويزًا له في فعله، وتكذيبًا لخبره فهو كافر، وكل من أثبت شيئًا قديمًا لا يقال له الله، فهو كافر، ومقصوده تكفير مثبتة الصفات والقدر، ومن يقول:إن أهل القبلة يخرجون من النار ولا يخلدون فيها. فمما يقال لهؤلاء: إن هذا القول ينعكس عليكم، فأنتم أولى بالتشبيه والتجويز والتكذيب، وإثبات قديم لا يقال له الله، فإنكم تشبهونه بالجمادات بل بالمعدومات، بل بالممتنعات، وتقولون: إنه يحبط الحسنات العظيمة بالذنب الواحد، ويخلد عليه في النار، وتكذبون بما أخبر به من مغفرته ورحمته، وإخراجه أهل الكبائر من النار بالشفاعة وغيرها، وأنه من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، و من يعمل مثقال ذرة شرًا يره. وأنتم تثبتون قديمًا لا يقال له الله، فإنكم تثبتون ذاتًا مجردة عن الصفات، ومعلوم أنه ما ليس بحي، ولا عليم، ولا قدير، فليس هو الله، فمن أثبت ذاتًا مجردة فقد أثبت قديما ليس هو الله، وإن قال: أنا أقول: إنه لم يزل حيًا عليمًا قديرًا، فهو قول مثبتة الصفات، فنفس كونه حيًا ليس هو كونه عالمًا، ونفس كونه عالمًا ليس هو كونه قادرًا، ونفس ذلك ليس هو كونه ذاتًا متصفة بهذه الصفات، فهذه معان متميزة في العقل، ليس هذا هو هذا. فإن قلتم: هي قديمة، فقد أثبتم معاني قديمة، وإن قلتم: هي شىء واحد، جعلتم كل صفة هي الأخرى، والصفة هي الموصوف، فجعلتم كونه حيًا هو كونه عالمًا وجعلتم ذلك هو نفس الذات، ومعلوم أن هذا مكابرة، وهذه المعاني هي معاني أسمائه الحسنى، وهو ـ سبحانه ـ لم يزل متكلمًا إذا شاء. فهو المسمى نفسه بأسمائه الحسنى، كما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس: أنه لما سئل عن قوله: فإذا قلتم: إن أسماءه أو كلامه غيره، فلفظ [الغير] مجمل، إن أردتم أن ذلك شىء بائن عنه فهذا باطل، وإن أردتم أنه يمكن الشعور بأحدهما دون الآخر،فقديذكر الإنسان الله ويخطر بقلبه ولا يشعر حينئذ ـ بكل معاني أسمائه، بل ولا يخطر له حينئذ ـ أنه عزيز وأنه حكيم، فقد أمكن العلم بهذا دون هذا، وإذا أريد بالغير هذا، فإنما يفيد المباينة في ذهن الإنسان؛ لكونه قد يعلم هذا دون هذا، وذلك لا ينفي التلازم في نفس الأمر، فهي معان متلازمة لا يمكن وجود الذات دون هذه المعاني، ولا وجود هذه المعاني دون وجود الذات. واسم [الله] إذا قيل: الحمد لله، أو قيل: بسم الله، يتناول ذاته وصفاته، لا يتناول ذاتًا مجردة عن الصفات، ولا صفات مجردة عن الذات، وقد نص أئمة السنة ـ كأحمد وغيره ـ على أن صفاته داخلة في مسمى أسمائه، فلا يقال: إن علم الله وقدرته زائدة عليه، لكن من أهل الإثبات من قال: إنها زائدة على الذات. وهذا إذا أريد به أنها زائدة على ما أثبته أهل النفي من الذات المجردة فهو صحيح، فإن أولئك قصروا في الإثبات، فزاد هذا عليهم، وقال: الرب له صفات زائدة على ما علمتموه. وإن أراد أنها زائدة على الذات الموجودة في نفس الأمر، فهو كلام متناقض، لأنه ليس في نفس الأمر ذات مجردة حتى يقال: إن الصفات زائدة عليها، بل لا يمكن وجود الذات إلا بما به تصير ذاتًا من الصفات، ولا يمكن وجود الصفات إلا بما به تصير صفات من الذات، فتخيل وجود أحدهما دون الآخر، ثم زيادة الآخر عليه تَخَيُّلٌ باطل. وأما الذين يقولون: إن [الاسم للمسمى] ـ كما يقوله أكثر أهل السنة ـ فهؤلاء وافقوا الكتاب والسنة والمعقول، قال الله تعالى: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعةً وتسعين اسمًا)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأحمد، والماحِي، والحاشِر، والعَاقِب) وكلاهما في الصحيحين. وإذا قيل لهم: أهو المسمى أم غيره؟ فصلوا، فقالوا: ليس هو نفس المسمى، ولكن يراد به المسمى، وإذا قيل: إنه غيره بمعنى أنه يجب أن يكون مباينًا له، فهذا باطل، فإن المخلوق قد يتكلم بأسماء نفسه فلا تكون بائنة عنه فكيف بالخالق، وأسماؤه من كلامه، وليس كلامه بائنًا عنه، ولكن قد يكون الاسم نفسه بائنا، مثل أن يسمى الرجل غيره باسم، أو يتكلم باسمه. فهذا الاسم نفسه ليس قائمًا بالمسمى، لكن المقصود به المسمى، فإن الاسم مقصوده إظهار [المسمى] وبيانه. وهو مشتق من [السُّمُوِّ]، وهو العلو، كما قال النحاة البصريون، وقال النحاة الكوفيون: هو مشتق من [السِّمَةِ] وهي العلامة، وهذا صحيح في [الاشتقاق الأوسط] وهو ما يتفق فيه حروف اللفظين دون ترتيبهما، فإنه في كليهما (السين والميم والواو)، والمعنى صحيح، فإن السمة والسميَّا العلامة. ومنه يقال: وسمته أسمه كقوله: فإن العلو مقارن للظهور، كلما كان الشىء أعلى كان أظهر، وكل واحد من العلو والظهور يتضمن المعنى الآخر، و منه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:(وأنت الظاهر فليس فوقك شىء) ولم يقل: فليس أظهر منك شىء؛ لأن الظهور يتضمن العلو والفوقية، فقال:(فليس فوقك شىء). ومنه قوله: وكذلك [الراية العالية] التي يعلم بها مكان الأمير و الجيوش، يقال لها: عَلَم، وكذلك العَلَم في الثوب؛ لظهوره، كما يقال لعُرْفِ الدِّيك وللجبال العالية: أعراف، لأنها لعلوها تعرف. فالاسم يظهر به المسمى ويعلو، فيقال للمسمى: سمة، أي: أظهره وأعله أي: أعل ذكره بالاسم الذي يذكر به، لكن يذكر تارة بما يحمد به، ويذكر تارة بما يذم به، كما قال تعالى: وقال في النوع المذموم: وبعض النحاة يقول: سمى اسمًا، لأنه علا على المسمى؛ أو لأنه علا على قسيميه الفعل والحرف، وليس المراد بالاسم هذا؛ بل لأنه يعلى المسمى فيظهر؛ ولهذا يقال: سميته أي أعليته، وأظهرته، فتجعل المعلى المظهر هو المسمى، وهذا إنما يحصل بالاسم. ووزنه فُعْل وفِعْل، وجمعه أسماء كقُنْو وأقناء، وعضْو وأعضاء، وقد يقال فيه: سُم وسِم بحذف اللام. ويقال: سمى كما قال: والله أسماك سما مباركًا. وما ليس له اسم فإنه لا يذكر ولا يظهر ولا يعلو ذكره، بل هو كالشىء الخفي الذي لا يعرف؛ ولهذا يقال: الاسم دليل على المسمى، وعلم على المسمى، ونحو ذلك. ولهذا كان[أهل الإسلام، والسنة] الذين يذكرون أسماء الله، يعرفونه ويعبدونه، ويحبونه ويذكرونه، ويظهرون ذكره. والملاحدة الذين ينكرون أسماءه، وتعرض قلوبهم عن معرفته وعبادته، ومحبته وذكره، حتى ينسوا ذكره والاسم يتناول اللفظ والمعني المتصور في القلب، وقد يراد به مجرد اللفظ، وقد يراد به مجرد المعنى، فإنه من الكلام، والكلام اسم للفظ والمعنى، وقد يراد به أحدهما؛ ولهذا كان من ذكر الله بقلبه أو لسانه فقد ذكره، لكن ذكره بهما أتم. والله ـ تعالى ـ قد أمر بتسبيح اسمه، وأمر بالتسبيح باسمه، كما أمر بدعائه بأسمائه الحسنى؛ فيدعى بأسمائه الحسنى، ويسبح اسمه، وتسبيح اسمه هو تسبيح له؛ إذ المقصود بالاسم المسمى؛ كما أن دعاء الاسم هو دعاء المسمى، قال تعالى: والله ـ تعالى ـ يأمر بذكره تارة، وبذكر اسمه تارة، كما يأمر بتسبيحه تارة، وتسبيح اسمه تارة، فقال: لكن هنا يقال: بسم الله، فيذكر نفس الاسم الذي هو [ألف سين ميم] وأما في قوله: وهذا ـ أيضًا ـ مما يبين فساد قول من جعل الاسم هو المسمى، وقوله في الذبيحة: وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبين أن هذه الآية تدل على أن القارئ مأمور أن يقرأ بسم الله، وأنها ليست كسائر القرآن، بل هي تابعة لغيرها، وهنا يقول: وأما قوله: وأما التسبيح، فقد قال: وفي الدعاء: فقد جعل الاسم تارة مدعوًا، وتارة مدعوا به، في قوله: فالحمد لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركَا فيه،كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله. آخره ولله الحمد والمنة، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
|