وقال شيخ الإسلام: أحمد بن تيمية قدس الله روحه
فصل:
[تقرب العبد إلى الله] - في مثل قوله: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} وقوله: {اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}الاسراء: 57] وقوله: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الواقعة:88]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه: (من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا) الحديث. وقوله: (ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) الحديث. وكذلك [القربان] كقوله: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا} [المائدة: 27]. وقوله: {حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} [آل عمران: 183]. ونحو ذلك - لا ريب أنه بعلوم وأعمال يفعلها العبد وفي ذلك حركة منه وانتقال من حال إلى حال. ثم لا يخلو مع ذلك: إما أن روحه وذاته تتحرك أو لا تتحرك: وإذا تحركت: فإما أن تكون حركتها إلى ذات الله أو إلى شيء آخر وإذا كانت إلى ذات الله بقي النظر في قرب الله إليه ودنوه وإتيانه ومجيئه؛ إما جزاء على قرب العبد وإما ابتداء كنزوله إلى سماء الدنيا. فالأول: قول ـ المتفلسفة ـ الذين يقولون: إن الروح لا داخل البدن ولا خارجه وإنها لا توصف بالحركة ولا بالسكون وقد تبعهم على ذلك قوم ممن ينتسب إلى الملة. فهؤلاء عندهم قرب العبد ودنوه إزالة النقائص والعيوب عن نفسه وتكميلها بالصفات الحسنة الكريمة حتى تبقى مقاربة للرب مشابهة له من جهة المعنى ويقولون: الفلسفة التشبه بالإله على قدر الطاقة؛ فأما حركة الروح فممتنعة عندهم. وكذلك يقولون: في قرب الملائكة. والذي أثبتوه من تزكية النفس عن العيوب وتكميلها بالمحاسن حق في نفسه؛ لكن نفيهم ما زاد على ذلك خطأ؛ لكنهم يعترفون بحركة جسمه إلى المواضع التي تظهر فيها آثار الرب كالمساجد والسموات والعارفين. وعند هؤلاء معراج النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو انكشاف حقائق الكون له كما فسره بذلك ابن سينا ومن اتبعه كعين القضاة وابن الخطيب في [المطالب العالية]، الثاني: قول المتكلمة الذين يقولون: إن الله ليس فوق العرش. وإن نسبة العرش والكرسي إليه سواء وإنه لا داخل العالم ولا خارجه؛ لكن يثبتون حركة العبد والملائكة فيقولون: قرب العبد إلى الله حركة ذاته إلى الأماكن المشرفة عند الله وهي السموات وحملة العرش والجنة وبذلك يفسرون معراج النبي صلى الله عليه وسلم ويتفق هؤلاء والذين قبلهم في حركة بدن العبد إلى الأماكن المشرفة كثبوت ـ العبادات ـ وإنما النزاع في حركة نفسه. ويسلم الأولون ـ حركة النفس ـ بمعنى تحولها من حال إلى حال؛ لا بمعنى الانتقال من موضع إلى موضع واتفاقهم على حركة الجسم وحركة الروح أيضا عند الآخرين إلى كل مكان تظهر فيه معرفة الله كالسموات والمساجد وأولياء الله ومواضع أسماء الله وآياته فهو حركة إلى، الثالث: قول: ـ أهل السنة والجماعة ـ الذين يثبتون أن الله على العرش وأن حملة العرش أقرب إليه ممن دونهم وأن ملائكة السماء العليا أقرب إلى الله من ملائكة السماء الثانية وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى السماء صار يزداد قربا إلى ربه بعروجه وصعوده وكان عروجه إلى الله لا إلى مجرد خلق من خلقه وأن روح المصلي تقرب إلى الله في السجود وإن كان بدنه متواضعا. وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب. ثم ـ قرب الرب من عبده ـ هل هو من لوازم هذا القرب كما أن المتقرب إلى الشيء الساكن كالبيت المحجوج والجدار والجبل كلما قربت منه قرب منك ؟ أو هو قرب آخر يفعله الرب كما أنك إذا قربت إلى الشيء المتحرك إليك تحرك أيضا إليك فمنك فعل ومنه فعل آخر. هذا فيه قولان ـ لأهل السنة ـ مبنيان على ما تقدم من قاعدة الصفات الفعلية كمسألة النزول وغيرها وقد تقدم الكلام في ذلك. وعلى هذا فما روي من قرب الرب إلى خواص عباده وتجليه لقلوبهم كما في [الزهد لأحمد] أن موسى قال: يا رب أين أجدك ؟ قال: (عند المنكسرة قلوبهم من أجلي أقترب إليها كل يوم شبرا ولولا ذلك لاحترقت). هذا القرب عند المتفلسفة والجهمية هو مجرد ظهوره وتجليه لقلب العبد فهو قرب المثال. ثم المتفلسفة لا تثبت حركة الروح والجهمية تسلم جواز حركة الروح إلى مكان عال وأما أهل السنة فعندهم مع التجلي والظهور تقرب ذات العبد إلى ذات ربه وفي جواز دنو ذات الله القولان وقد بسطت هذا في غير هذا الموضع. وعلى مذهب ـ النفاة ـ من المتكلمة لا يكون إتيان الرب ومجيئه ونزوله إلا تجليه وظهوره لعبده. إذا ارتفعت الحجب المتصلة بالعبد المانعة من المشاهدة الباطنة أو الظاهرة بمنزلة الذي كان أعمى أو أعمش فزال عماه فرأى الشمس والقمر فيقول: جاءني الشمس والقمر وهذا قول ـ النفاة ـ من المتفلسفة والمعتزلة والأشعرية؛ لكن الأشعرية يثبتون من الرؤية ما لا يثبته المعتزلة ومنهم من يوافقهم في المعنى الذي قصدوه. وأما على مذهب ـ أهل السنة والجماعة ـ من السلف وأهل الحديث وأهل المعرفة ومن اتبعهم من الفقهاء والصوفية والعامة وأهل الكلام أيضا؛ فإن نزوله وإتيانه ومجيئه قد يكون بحركة من العبد وقرب منه ودنو إليه وهو قدر زائد على انكشاف بصيرة العبد فإن هذا علم وعندهم يكون ذلك بعلم من العبد وبعمل منه فهو كشف وعمل. ولا ينكر الأشعرية ونحوهم من أهل الكلام أن يكون من العبد حركة فإن ذلك ممكن وإنما قد ينكرون حركته إلى الله كما تقدم. وقد شبه بعضهم مجيء الله بقوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] أي الموقن به من الموت وما بعده. قلت: هذا مثل قوله: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} [النازعـات:34] وقوله: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} [عبس:33] وقوله:{فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18] وجعل في ذلك هو ظهوره وتجليه. قلت: وليس هو مجرد ظهوره وتجليه وإن كان متضمنا لذلك؛ بل هو متضمن لحركة العبد إليه ثم إن كان ساكنا كان مجيئه من لوازم مجيء العبد إليه وإن كان فيه حركة كان مجيئه بنفسه أيضا وإن كان العبد ذاهبا إليه وهكذا مجيء اليقين ومجيء الساعة. وفي جانب الربوبية يكون بكشف حجب ليست متصلة بالعبد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور - أو النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه) فهي حجب تحجب العباد عن الإدراك كما قد يحجب الغمام والسقوف عنهم الشمس والقمر. فإذا زالت تجلت الشمس والقمر. وأما حجبها لله عن أن يرى ويدرك فهذا لا يقوله مسلم؛ فإن الله لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. وهو يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة السوداء ولكن يحجب أن تصل أنواره إلى مخلوقاته كما قال: (لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه) فالبصر يدرك الخلق كلهم وأما السبحات فهي محجوبة بحجابه النور أو النار. والجهمية لا تثبت له حجبا أصلا؛ لأنه عندهم ليس فوق العرش ويروون الأثر المكذوب عن علي (أنه سمع قصابا يحلف لا والذي احتجب بسبع سموات فعلاه بالدرة فقال: يا أمير المؤمنين أكفر عن يميني ؟ قال لا؛ ولكنك حلفت بغير الله). فهذا لا يعرف له إسناد ولو ثبت كان علي قد فهم من المتكلم أنه عنى أنه محتجب عن إدراكه لخلقه فهذا باطل قطعا؛ بخلاف احتجابه عن إدراك خلقه له. ويدل على ذلك الحديث الصحيح: (إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة: إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه. فيقولون: ما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا. ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار ؟ قال: فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وهي الزيادة). وعند من أثبت الرؤية من المتجهمة أن حجاب كل أحد معه وكشفه خلق الإدراك فيه لا أنه حجاب منفصل. وأما إتيانه ونزوله ومجيئه بحركة منه وانتقال: فهذا فيه القولان لأهل السنة من أصحابنا وغيرهم والله أعلم. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما.
وقال الشيخ رحمه الله تعالى:
الذين يجعلون الفلسفة هي التشبيه بالإله على قدر الطاقة. ويوجد ـ هذا التفسير ـ في كلام طائفة كأبي حامد الغزالي وأمثاله: ولا يثبت هؤلاء قربا حقيقيا - وهو القرب المعلوم المعقول - ومن جعل قرب عباده المقربين ليس إليه؛ وإنما هو إلى ثوابه وإحسانه فهو معطل مبطل. وذلك أن ثوابه وإحسانه يصل إليهم ويصلون إليه. ويباشرهم ويباشرونه بدخوله فيهم ودخولهم فيه بالأكل واللباس. فإذا كانوا يكونون في نفس جنته ونعيمه وثوابه كيف يجعل أعظم الغايات قربهم من إحسانه ولا سيما والمقربون هم فوق أصحاب اليمين الأبرار. الذين كتابهم في عليين {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين 19ـ 28].
قال ابن عباس: {يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} صرفا وتمزج لأصحاب اليمين مزجا. فقد أخبر أن الأبرار في نفس النعيم وأنهم يسقون من الشراب الذي وصفه الله تعالى ويجلسون على الأرائك ينظرون فكيف يقال: إن المقربين - الذين هم أعلى من هؤلاء بحيث يشربون صرفها ويمزج لهؤلاء مزجا - إنما تقريبهم هو مجرد النعيم الذي أولئك فيه ؟ هذا مما يعلم فساده بأدنى تأمل. المسألة الثانية في ـ قربه ـ الذي هو من لوازم ذاته: مثل العلم والقدرة فلا ريب أنه قريب بعلمه وقدرته وتدبيره من جميع خلقه لم يزل بهم عالما ولم يزل عليهم قادرا هذا مذهب جميع أهل السنة وعامة الطوائف إلا من ينكر علمه القديم من القدرية والرافضة ونحوهم أو ينكر قدرته على الشيء قبل كونه من الرافضة والمعتزلة وغيرهم. ـ وأما قربه بنفسه من مخلوقاته ـ قربا لازما في وقت دون وقت؛ ولا يختص به شيء: فهذا فيه للناس قولان. فمن يقول هو بذاته في كل مكان يقول بهذا ومن لا يقول بهذا لهم أيضا فيه قولان. أحدهما إثبات هذا القرب وهو قول طائفة من المتكلمين والصوفية وغيرهم يقولون: هو فوق العرش ويثبتون هذا القرب. وقوم يثبتون هذا القرب؛ دون كونه على العرش. وإذا كان قرب عباده منه نفسه وقربه منهم ليس ممتنعا عند الجماهير من السلف وأتباعهم من أهل الحديث والفقهاء والصوفية وأهل الكلام لم يجب أن يتأول كل نص فيه ذكر قربه من جهة امتناع القرب عليه ولا يلزم من جواز القرب عليه أن يكون كل موضع ذكر فيه قربه يراد به قربه بنفسه بل يبقى هذا من الأمور الجائزة وينظر في النص الوارد فإن دل على هذا حمل عليه وإن دل على هذا حمل عليه وهذا كما تقدم في لفظ الإتيان والمجيء. وإن كان في موضع قد دل عندهم على أنه هو يأتي ففي موضع آخر دل على أنه يأتي بعذابه كما في قوله تعالى: {فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِد} [النحل: 26] وقوله تعالى: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: الآية2] فتدبر هذا فإنه كثيرا ما يغلط الناس في هذا الموضع إذا تنازع النفاة والمثبتة في صفة ودلالة نص عليها يريد المريد أن يجعل ذلك اللفظ - حيث ورد - دالا على الصفة وظاهرا فيها. ثم يقول النافي: وهناك لم تدل على الصفة فلا تدل هنا. وقد يقول بعض المثبتة: دلت هنا على الصفة فتكون دالة هناك؛ بل لما رأوا بعض النصوص تدل على الصفة جعلوا كل آية فيها ما يتوهمون أنه يضاف إلى الله تعالى - إضافة صفة - من آيات الصفات. كقوله تعالى:{فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: من الآية56].
وهذا يقع فيه طوائف من المثبتة والنفاة وهذا من أكبر الغلط فإن الدلالة في كل موضع بحسب سياقه. وما يحف به من القرائن اللفظية والحالية وهذا موجود في أمر المخلوقين يراد بألفاظ الصفات منهم في مواضع كثيرة غير الصفات. وأنا أذكر لهذا مثالين نافعين، أحدهما صفة الوجه فإنه لما كان إثبات هذه الصفة مذهب أهل الحديث والمتكلمة الصفاتية: من الكلابية والأشعرية والكرامية وكان نفيها مذهب الجهمية: من المعتزلة وغيرهم ومذهب بعض الصفاتية من الأشعرية وغيرهم صار بعض الناس من الطائفتين كلما قرأ آية فيها ذكر الوجه جعلها من موارد النزاع فالمثبت يجعلها من الصفات التي لا تتأول بالصرف والنافي يرى أنه إذا قام الدليل على أنها ليست صفة فكذلك غيرها. مثال ذلك قوله تعالى: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّه} [البقرة: 115]. أدخلها في آيات الصفات طوائف من المثبتة والنفاة حتى عدها ـ أولئك ـ كابن خزيمة مما يقرر إثبات الصفة وجعل ـ النافية ـ تفسيرها بغير الصفة حجة لهم في موارد النزاع. ولهذا لما اجتمعنا في المجلس المعقود وكنت قد قلت: أمهلت كل من خالفني ثلاث سنين إن جاء بحرف واحد عن السلف يخالف شيئا مما ذكرته كانت له الحجة وفعلت وفعلت وجعل المعارضون يفتشون الكتب فظفروا بما ذكره البيهقي في كتاب ـ الأسماء والصفات ـ في قوله تعالى: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّه} فإنه ذكر عن مجاهد والشافعي أن المراد قبلة الله فقال أحد كبرائهم - في المجلس الثاني - قد أحضرت نقلا عن السلف بالتأويل فوقع في قلبي ما أعد فقلت: لعلك قد ذكرت ما روي في قوله تعالى: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّه} قال: نعم. قلت: المراد بها قبلة الله فقال: قد تأولها مجاهد والشافعي وهما من السلف. ولم يكن هذا السؤال يرد علي؛ فإنه لم يكن شيء مما ناظروني فيه صفة الوجه ولا أثبتها لكن طلبوها من حيث الجملة وكلامي كان مقيدا كما في الأجوبة فلم أر إحقاقهم في هذا المقام بل قلت هذه الآية ليست من آيات الصفات أصلا ولا تندرج في عموم قول من يقول: لا تؤول آيات الصفات. قال: أليس فيها ذكر الوجه فلما قلت: المراد بها قبلة الله. قال: أليست هذه من آيات الصفات ؟ قلت: لا. ليست من موارد النزاع فإني إنما أسلم أن المراد بالوجه - هنا - القبلة فإن [الوجه] هو الجهة في لغة العرب يقال: قصدت هذا الوجه وسافرت إلى هذا [الوجه] أي: إلى هذه الجهة وهذا كثير مشهور فالوجه هو الجهة. وهو الوجه: كما في قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148] أي متوليها فقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} كقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ} كلتا الآيتين في اللفظ والمعنى متقاربتان وكلاهما في شأن القبلة والوجه والجهة هو الذي ذكر في الآيتين: أنا نوليه: نستقبله. قلت: والسياق يدل عليه لأنه قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} وأين من الظروف وتولوا أي تستقبلوا. فالمعنى: أي موضع استقبلتموه فهنالك وجه الله فقد جعل وجه الله في المكان الذي يستقبله هذا بعد قوله: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} وهي الجهات كلها كما في الآية الأخرى: {قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} [البقرة: 142]. فأخبر أن الجهات له فدل على أن الإضافة إضافة تخصيص وتشريف؛ كأنه قال جهة الله وقبلة الله. ولكن من الناس من يسلم أن المراد بذلك جهة الله أي قبلة الله ولكن يقول: هذه الآية تدل على الصفة وعلى أن العبد يستقبل ربه كما جاء في الحديث: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه) وكما في قوله: (لا يزال الله مقبلا على عبده بوجهه ما دام مقبلا عليه فإذا انصرف صرف وجهه عنه)؛ ويقول: إن الآية دلت على المعنيين. فهذا شيء آخر ليس هذا موضعه. والغرض أنه إذا قيل: ـ فثم قبلة الله ـ لم يكن هذا من التأويل المتنازع فيه؛ الذي ينكره منكرو تأويل آيات الصفات؛ ولا هو مما يستدل به عليهم المثبتة فإن هذا المعنى صحيح في نفسه والآية دالة عليه وإن كانت دالة على ثبوت صفة فذاك شيء آخر ويبقى دلالة قولهم: {فَثَمَّ وَجْهُ اللّه} [البقرة 115]على فثم قبلة الله هل هو من باب تسمية القبلة وجها باعتبار أن الوجه والجهة واحد ؟ أو باعتبار أن من استقبل وجه الله فقد استقبل قبلة الله ؟ فهذا فيه بحوث ليس هذا موضعها. والمثال الثاني: لفظة [الأمر] فإن الله تعالى لما أخبر بقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس 82] وقال: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْر} [الأعراف 54] واستدل طوائف من السلف على أن الأمر غير مخلوق بل هو كلامه وصفة من صفاته بهذه الآية وغيرها صار كثير من الناس يطرد ذلك في لفظ الأمر حيث ورد فيجعله صفة طردا للدلالة ويجعل دلالته على غير الصفة نقضا لها وليس الأمر كذلك؛ فبينت في بعض رسائلي: أن الأمر وغيره من الصفات يطلق على الصفة تارة وعلى متعلقها أخرى؛ ـ فالرحمة ـ صفة لله ويسمى ما خلق رحمة والقدرة من صفات الله تعالى ويسمى ـ المقدور ـ قدرة ويسمى تعلقها ـ بالمقدور ـ قدرة والخلق من صفات الله تعالى ويسمى خلقا والعلم من صفات الله ويسمى المعلوم أو المتعلق علما؛ فتارة يراد الصفة وتارة يراد متعلقها وتارة يراد نفس التعلق. و ـ الأمر ـ مصدر فالمأمور به يسمى أمرا ومن هذا الباب سمي عيسى - صلى الله عليه وسلم - كلمة؛ لأنه مفعول بالكلمة وكائن بالكلمة وهذا هو الجواب عن سؤال الجهمية لما قالوا: عيسى كلمة الله فهو مخلوق والقرآن إذا كان كلام الله لم يكن إلا مخلوقا؛ فإن عيسى ليس هو نفس كلمة الله وإنما سمي بذلك لأنه خلق بالكلمة على خلاف سنة المخلوقين فخرقت فيه العادة وقيل له: كن فكان. والقرآن نفس كلام الله. فمن تدبر ما ورد في ـ باب أسماء الله تعالى وصفاته ـ وإن دلالة ذلك في بعض المواضع على ذات الله. أو بعض صفات ذاته لا يوجب أن يكون ذلك هو مدلول اللفظ حيث ورد حتى يكون ذلك طردا للمثبت ونقضا للنافي؛ بل ينظر في كل آية وحديث بخصوصه وسياقه وما يبين معناه من القرآن والدلالات فهذا أصل عظيم مهم نافع في باب فهم الكتاب والسنة والاستدلال بهما مطلقا ونافع في معرفة الاستدلال والاعتراض والجواب وطرد الدليل ونقضه فهو نافع في كل علم خبري أو إنشائي وفي كل استدلال أو معارضة: من الكتاب والسنة وفي سائر أدلة الخلق. فإذا كان العبد لا يمتنع أن يتقرب من ربه وأن يقرب منه ربه بأحد المعنيين المتقدمين أو بكليهما؛ لم يمتنع حمل النص على ذلك إذا كان دالا عليه فإن لم يكن دالا عليه لم يجز حمله وإن احتمل هذا المعنى وهذا المعنى وقف. فجواز إرادة المعنى في الجملة غير كونه هو المراد بكل نص. وأما قربه اللازم من عباده: بعلمه وقدرته وتدبيره فقد تقدم. وتقدم ذكر الخلاف في قربه بنفسه قربا لازما وعرف المتفق عليه والمختلف فيه: من قربه العارض واللازم؛ فقوله سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق 16] من الناس طوائف عندهم لا يحتاج إلى تأويل ومنهم من يحوجها إلى التأويل. ثم أقول هذه الآية لا تخلو إما أن يراد بها قربه سبحانه؛ أو قرب ملائكته؛ كما قد اختلف الناس في ذلك فإن أريد بها قرب الملائكة فقوله: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق 17]؛ فيكون الله سبحانه وتعالى قد أخبر بعلمه هو سبحانه بما في نفس الإنسان وأخبر بقرب الملائكة الكرام الكاتبين منه. ودليل ذلك قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى} ففسر ذلك بالقرب الذي هو حين يتلقى المتلقيان وبأي معنى فسر؛ فإن علمه وقدرته عام التعلق وكذلك نفسه سبحانه لا يختص بهذا الوقت وتكون هذه الآية مثل قوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف 80] ومنه قوله في أول السورة: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق 4]. وعلى هذا فالقرب لا مجاز فيه. وإنما الكلام في قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ} حيث عبر بها عن ملائكته ورسله أو عبر بها عن نفسه أو عن ملائكته ولكن قرب كل بحسبه. فقرب الملائكة منه تلك الساعة وقرب الله تعالى منه مطلق؛ كالوجه الثاني إذا أريد به الله تعالى أي: نحن أقرب إليه من حبل الوريد؛ فيرجع هذا إلى القرب الذاتي اللازم. وفيه القولان. أحدهما: إثبات ذلك وهو قول طائفة من المتكلمين والصوفية. والثاني: أن القرب هنا بعلمه؛ لأنه قد قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}؛ فذكر لفظ العلم هنا دل على القرب بالعلم. ومثل هذه الآية حديث أبي موسى: (إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا قريبا إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)؛ فالآية لا تحتاج إلى تأويل القرب في حق الله تعالى إلا على هذا القول وحينئذ فالسياق دل عليه ومما دل عليه السياق هو ظاهر الخطاب؛ فلا يكون من موارد النزاع. وقد تقدم أنا لا نذم كل ما يسمى تأويلا مما فيه كفاية وإنما نذم تحريف الكلم عن مواضعه ومخالفة الكتاب والسنة والقول في القرآن بالرأي. وتحقيق الجواب هو أن يقال: إما أن يكون قربه بنفسه القرب اللازم ممكنا أو لا يكون. فإن كان ممكنا لم تحتج الآية إلى تأويل وإن لم يكن ممكنا حملت الآية على ما دل عليه سياقها وهو قربه بعلمه. وعلى هذا القول فإما أن يكون هذا هو ظاهر الخطاب الذي دل عليه السياق أو لا يكون. فإن كان هو ظاهر الخطاب فلا كلام؛ إذ لا تأويل حينئذ. وإن لم يكن ظاهر الخطاب؛ فإنما حمل على ذلك لأن الله تعالى قد بين في غير موضع من كتابه أنه على العرش وأنه فوق فكان ما ذكره في كتابه في غير موضع أنه فوق العرش مع ما قرنه بهذه الآية من العلم دليلا على أنه أراد قرب العلم؛ إذ مقتضى تلك الآيات ينافي ظاهر هذه الآية على هذا التقدير والصريح يقضي على الظاهر ويبين معناه. ويجوز باتفاق المسلمين أن تفسر إحدى الآيتين بظاهر الأخرى ويصرف الكلام عن ظاهره؛ إذ لا محذور في ذلك عند أحد من أهل السنة وإن سمي تأويلا وصرفا عن الظاهر فذلك لدلالة القرآن عليه ولموافقة السنة والسلف عليه؛ لأنه تفسير القرآن بالقرآن؛ ليس تفسيرا له بالرأي. والمحذور إنما هو صرف القرآن عن فحواه بغير دلالة من الله ورسوله والسابقين كما تقدم. وللإمام أحمد - رحمه الله تعالى - رسالة في هذا النوع وهو ذكر الآيات التي يقال: بينها معارضة وبيان الجمع بينها وإن كان فيه مخالفة لما يظهر من إحدى الآيتين أو حمل إحداهما على المجاز. وكلامه في هذا أكثر من كلام غيره من الأئمة المشهورين؛ فإن كلام غيره أكثر ما يوجد في المسائل العملية وأما المسائل العلمية فقليل. وكلام الإمام أحمد كثير في المسائل العلمية والعملية لقيام الدليل من القرآن والسنة على ذلك ومن قال: إن مذهبه نفي ذلك فقد افترى عليه والله أعلم. والكلام على قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَان} [البقرة 186] مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا قريبا؛ إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) فمن حمله على قرب نفسه قربا لازما أو عارضا فلا كلام ومن قال: المراد كونه يسمع دعاءهم ويستجيب لهم وما يتبع ذلك. قال: دل عليه السياق فلا يكون خلاف الظاهر. أو يقول: دل عليه ما في القرآن والسنة من النصوص التي تدل على أنه فوق العرش فيكون تفسير القرآن وتأويله بالكتاب والسنة وهذا لا محذور فيه. واعلم أن من الناس من سلك هذا المسلك في نفس ـ المعية ـ ويقول: إنه محمول على ما دل عليه السياق. وإن كان خلاف ظاهر الإطلاق أو محمول على خلاف الظاهر لدلالة الآيات أن الله فوق العرش ويجعل بعض القرآن يفسر بعضا لكن نحن بينا أنه ليس في ظاهر المعية ما يوجب ذلك؛ لأنا وجدنا جميع استعمالات ـ مع ـ في الكتاب والسنة لا توجب اتصالا واختلاطا فلم يكن بنا حاجة إلى أن نجعل ظاهره الملاصقة ثم نصرفه. فأما لفظ [القرب] فهو مثل لفظ [الدنو] وضد القرب البعد فاللفظ ظاهر في اللغة. فإما أن يحمل عليه وإما أن يحمل على ما يقال إنه الظاهر الذي دل عليه السياق أو على خلاف الظاهر لدلالة بقية النصوص. وقد روى الطبراني وغيره: أن (ناسا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه ؟ فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَان}). وصلى الله على محمد.
وقال رحمه الله:
فصل:
قد كتبت قبل هذا في الجزء الثاني من المرتب: الكلام في قرب العبد من ربه، وذهابه إليه، وقرب الرب من عبده، وتجلي الرب له وظهوره وما يعترف به المتفلسفة من ذلك؛ ثم المتكلمة ثم أهل السنة وأن ما يثبته هؤلاء من الحق يثبته أهل السنة. ثم يثبت أهل السنة ـ أشياء ـ لا يعرفها أهل البدعة؛ لجهلهم وضلالهم؛ إذ كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله. ثم المعاني الذي يثبتها هؤلاء من الحق ويتأولون النصوص عليها حسنة صحيحة جيدة؛ لكن الضلال جاء من جهة نفيهم ما زاد عليها وذلك مثل إثبات المتفلسفة لواجب الوجود، وأن الروح غير البدن، وأنها باقية بعد فراق البدن وأنها منعمة أو معذبة: نعيما وعذابا روحانيين. وكذلك ما يثبتونه من قوى البدن والنفس الصالحة وغير الصالحة: كل ذلك حق؛ لكن زعمهم أن لا معنى للنصوص إلا ذلك وأن لا حق وراء ذلك وأن [الجنة] و [النار] عبارة عن ذلك؛ وإنما الوصف المذكور في الكتب الإلهية أمثال مضروبة لتفهيم المعاد الروحاني وأن [الملائكة] و [الجن] هي أعراض وهي قوى النفس الصالحة والفاسدة وأن [الروح] لا تتحرك؛ وإنما ينكشف له حقائق الكون فيكون ذلك قربها إلى الله وأن معراج النبي هو من هذا الباب هذا النفي والتكذيب كفر. وكذلك ما يثبته المتكلمة: من أن العبد يتقرب ببدنه وروحه إلى [الأماكن المفضلة] التي يظهر فيها نور الرب كالسموات والمساجد وكذلك الملائكة فهذا صحيح؛ لكن دعواهم أنهم لا يتقربون إلى ذات الله وأن الله ليس على العرش؛ هذا باطل. وإنما الصواب إثبات ذلك وإثبات ما جاءت به النصوص أيضا من قرب العبد إلى ربه وتجلي الرب لعباده بكشف الحجب المتصلة بهم والمنفصلة عنهم وأن القرب والتجلي فيه علم العبد الذي هو ظهور الحق له وعمل العبد الذي هو دنوه إلى ربه. وقد تكلمت في دنو الرب وقربه وما فيه من النزاع بين أهل السنة. ثم بعض المتسننة والجهال: إذا رأوا ما يثبته أولئك من الحق: قد يفرون من التصديق به؛ وإن كان لا منافاة بينه وبين ما ينازعون أهل السنة في ثبوته؛ بل الجميع صحيح. وربما كان الإقرار بما اتفق على إثباته أهم من الإقرار بما حصل فيه نزاع؛ إذ ذلك أظهر وأبين وهو أصل للمتنازع فيه؛ فيحصل بعض الفتنة في نوع تكذيب ونفي حال أو اعتقاد كحال المبتدعة فيبقى الفريقان في بدعة وتكذيب ببعض موجب النصوص وسبب ذلك أن قلوب المثبتة تبقى متعلقة بإثبات ما نفته المبتدعة. وفيهم نفرة عن قول المبتدعة؛ بسبب تكذيبهم بالحق ونفيهم له فيعرضون عن ما يثبتونه من الحق أو ينفرون منه أو يكذبون به كما قد يصير بعض جهال المتسننة في إعراضه عن بعض فضائل علي وأهل البيت؛ إذا رأى أهل البدعة يغلون فيها؛ بل بعض المسلمين يصير في الإعراض عن فضائل موسى وعيسى بسبب اليهود والنصارى بعض ذلك حتى يحكى عن قوم من الجهال أنهم ربما شتموا المسيح إذا سمعوا النصارى يشتمون نبينا في الحرب. وعن بعض الجهال أنه قال: سبوا عليا كما سبوا عتيقكم كفر بكفر؛ وإيمان بإيمان. ومثال ذلك في ـ باب الصفات ـ أن العبد إذا عرف ربه وأحبه؛ بل لو عرف غير الله وأحبه وتألهه؛ يبقى ذلك المعروف المحبوب المعظم في القلب واللسان وقد تقوى به شدة الوجد والمحبة والتعظيم حتى يستغرق به ويفنى به عن نفسه. كما قيل إن رجلا كان يحب آخر؛ فوقع المحبوب في اليم. فألقى الآخر نفسه خلفه فقال: أنا وقعت فما الذي أوقعك؟ فقال: غبت بك عني فظننت أنك أني. وهذا كما قيل:
مثالك في عيني وذكراك في فمي ** ومثواك في قلبي، فأين تغيب؟
وقال آخر:
ساكن في القلب يعمره ** لست أنساه فأذكره
ومولى قد رضيت به ** ونصيبي منه أوفره
ولقوة الاتصال: زعم بعض الناس أن العالم والعارف يتحد بالمعلوم المعروف وآخرون يرون أن المحب قد يتحد بالمحبوب. وهذا إما غلط؛ وإما توسع في العبارة فإنه نوع اتحاد: هو اتحاد في عين المتعلقات من نوع اتحاد في المطلوب والمحبوب والمأمور به والمرضي والمسخوط؛ واتحاد في نوع الصفات من الإرادة والمحبة والأمر والنهي والرضا والسخط بمنزلة اتحاد الشخصين المتحابين. وهذا له تفصيل نذكره في غير هذا الموضع. وإنما المقصود هنا: أن المعروف المحبوب في قلب العارف المحب: له أحكام وأخبار صادقة؛ كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَه} [الزخرف 84] وقوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم 20] وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} [الجن 3] وقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى 1]. وقوله في الاستفتاح: (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك؛ ولا إله غيرك). ويحصل لقلوب العارفين به استواء وتجل لا يزول عنها يقر به كل أحد؛ لكن أهل السنة يقرون بكثير مما لا يعرفه أهل البدعة؛ كما يقرون باستوائه على العرش. ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: (عبدي مرضت فلم تعدني فيقول: أي رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده). فقد أخبر أنه عند عبده؛ وجعل مرضه مرضه والإنسان قد تكون عنده محبة وتعظيم لأمير أو عالم أو مكان: بحيث يغلب على قلبه ويكثر من ذكره وموافقته في أقواله وأعماله فيقال: إن أحدهما الآخر كما يقال: أبو يوسف أبو حنيفة. ويشبه هذا من بعض الوجوه: ظهور الأجسام المستنيرة وغيرها في الأجسام الشفافة كالمرآة المصقولة والماء الصافي ونحو ذلك. بحيث ينظر الإنسان في الماء الصافي السماء والشمس والقمر والكواكب. كما قال بعضهم:
إذا وقع السماء على صفاء كدر أنى يحركه النسيم ؟ ترى فيه السماء بلا امتراء كذاك البدر يبدو والنجوم وكذاك قلوب أرباب التجلي يرى في صفوها الله العظيم وكذلك نرى في المرآة صورة ما يقابلها من الشمس والقمر والوجوه وغير ذلك. ثم قد يحاذي تلك المرآة مرآة أخرى فترى فيها الصورة التي رئيت في الأولى ويتسلل الأمر فيه. وهذه المرائي المنعكسة تشبه من وجه بعيد ظهور اسم المحبوب المعظم في الورق بالخط والكتابة سواء كان بمداد أو بتنقير أو بغير ذلك فإنه هنا لم يظهر إلا حروف اسمه في جسم لا حس له ولا حركة وفي الأجسام الصقلية ظهرت صورته؛ لكن من غير شعور بالمظهر ولا حركة فالأول مظهر اسمه وهذا مظهر ذاته. وأما في قلوب العباد وأرواحهم: فيظهر المعروف المحبوب المعظم وأسماؤه في القلب الذي يعلمه ويحبه. وذلك نوع أكمل وأرفع من غيره بل ليس له نظير. وإلى ذلك أشار بقوله: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} [المجادلة 22] وهو الذي قال: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُه} [المائدة 5] وقال: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا} [البقرة 137] وكذلك قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} [الشورى 11] وقوله: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِل} [البقرة 261].
فصل:
فهذا القدر لا يخالف فيه عاقل فإنه أمر محسوس مدرك وهو أقل مراتب الإقرار بالله؛ بل الإقرار بوجود أي شيء كان وأقل مراتب عبادته ومحبته والتقرب إليه ثم مع ذلك هل يتحرك القلب. والروح العارفة المحبة أم لا حركة لها إلا مجرد التحول من صفة إلى صفة ؟. الأول مذهب عامة المسلمين. وجمهور الخلق. والثاني قول المتفلسفة ومن اتبعهم؛ إذ عندهم أن الروح لا داخل البدن ولا خارجه ولا تتحرك ولا تسكن. وأما الجمهور فيقرون بتحركها نحو المحبوب المطلوب كائنا ما كان. ويقر جمهور المتكلمين بأنها تتحرك إلى المواضع المشرفة التي تظهر فيها آثار المحبوب وأنواره كتحرك قلوب العارفين وأبدانهم إلى السموات وإلى المساجد ونحو ذلك. وكذلك تحرك ذلك إلى ذات المحبوب من المخلوقين كالأنبياء والملائكة وغيرهم وكل من الفريقين يقر بتجلي الرب وظهوره لقلوب العارفين وهو عندهم حصول الإيمان والعلم والمعرفة في قلوبهم بدلا من الكفر والجهل؛ وهو حصول المثل والحد والاسم في السماء والأرض. وأما حركة روح العبد أو بدنه إلى ذات الرب فلا يقر به من كذب بأن الله فوق العرش من هؤلاء المعطلة الجهمية الذين كان السلف يكفرونهم ويرون بدعتهم أشد البدع ومنهم من يراهم خارجين عن الثنتين والسبعين فرقة: مثل من قال إنه في كل مكان أو إنه لا داخل العالم ولا خارجه؛ لكن عموم المسلمين وسلف الأمة وأهل السنة من جميع الطوائف تقر بذلك؛ فيكون العبد متقربا بحركة روحه وبدنه إلى ربه مع إثباتهم أيضا التقرب منهما إلى الأماكن المشرفة وإثباتهم أيضا تحول روحه وبدنه من حال إلى حال. فالأول مثل معراج النبي صلى الله عليه وسلم وعروج روح العبد إلى ربه وقربه من ربه في السجود وغير ذلك. والثاني: مثل الحج إلى بيته وقصده في المساجد. والثالث: مثل ذكره له ودعائه ومحبته وعبادته وهو في بيته؛ لكن في هذين يقرون أيضا بقرب الروح أيضا إلى الله نفسه فيجمعون بين الأنواع كلها. وأما تجليه لعيون عباده فأقر به المتكلمون الصفاتية؛ كالأشعرية والكلابية. ومن نفى منهم علو الرب على العرش قال: هو بخلق الإدراك في عيونهم ورفع الحجب المانعة. وأما أهل السنة: فيقرون بذلك وبأنه يرفع حجبا منفصلة عن العبد حتى يرى ربه كما جاء في الأحاديث الصحيحة.
سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية
رحمه الله عمن يقول: إن النصوص تظاهرت ظواهرها على ما هو جسم أو يشعر به والعقل دل على تنزيه الباري عز وجل عنه؛ فالأسلم للمؤمن أن يقول: هذا ـ متشابه ـ لا يعلم تأويله إلا الله. فقال له قائل: هذا لا بد له من ضابط وهو الفرق في الصفات بين المتشابه وغيره؛ لأن دعوى التأويل في كل الصفات باطل وربما أفضى إلى الكفر ويلزم منه أن لا يعلم لصفة من صفاته معنى فلا بد حينئذ من الفرق بين ما يتأول وما لا يتأول فقال: كل ما دل دليل العقل على أنه تجسيم كان ذلك متشابها. فهل هذا صحيح أم لا ؟ ابسطوا القول في ذلك.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين. هذه ـ مسألة ـ كبيرة عظيمة القدر اضطرب فيها خلائق من الأولين والآخرين من أوائل المائة الثانية من الهجرة النبوية فأما المائة الأولى فلم يكن بين المسلمين اضطراب في هذا وإنما نشأ ذلك في أوائل المائة الثانية لما ظهر ـ الجعد بن درهم ـ وصاحبه ـ الجهم بن صفوان ـ ومن اتبعهما من المعتزلة وغيرهم على إنكار الصفات. فظهرت مقالة الجهمية النفاة - نفاة الصفات - قالوا: لأن إثبات الصفات يستلزم التشبيه والتجسيم والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك؛ لأن الصفات التي هي العلم والقدرة والإرادة ونحو ذلك أعراض ومعان تقوم بغيرها والعرض لا يقوم إلا بجسم والله تعالى ليس بجسم؛ لأن الأجسام لا تخلو من الأعراض الحادثة وما لا يخلو من الحوادث فهو محدث. قالوا: وبهذا استدللنا على حدوث الأجسام؛ فإن بطل هذا بطل الاستدلال على حدوث الأجسام فيبطل الدليل على حدوث العالم فيبطل الدليل على إثبات الصفات. قالوا: وإذا كانت الأعراض التي هي الصفات لا تقوم إلا بجسم والجسم مركب من أجزائه والمركب مفتقر إلى غيره ولا يكون غنيا عن غيره واجب الوجود بنفسه والله تعالى غني عن غيره واجب الوجود بنفسه. قالوا: ولأن الجسم محدود متناه؛ فلو كان له صفات لكان محدودا متناهيا؛ وذلك لا بد أن يكون له مخصص خصصه بقدر دون قدر وما افتقر إلى مخصص لم يكن غنيا قديما واجب الوجود بنفسه. قالوا: ولأنه لو قامت به الصفات لكان جسما ولو كان جسما لكان مماثلا لسائر الأجسام فيجوز عليه ما يجوز عليها ويمتنع عليه ما يمتنع عليها وذلك ممتنع على الله تعالى. وزاد الجهم في ذلك هو والغلاة - من القرامطة والفلاسفة - نحو ذلك فقالوا: وليس له اسم كالشيء والحي والعليم ونحو ذلك؛ لأنه إذا كان له اسم من هذه الأسماء لزم أن يكون متصفا بمعنى الاسم كالحياة والعلم؛ فإن صدق المشتق مستلزم لصدق المشتق منه؛ وذلك يقتضي قيام الصفات به وذلك محال؛ ولأنه إذا سمي بهذه الأسماء فهي مما يسمى به غيره. والله منزه عن مشابهة الغير. وزاد آخرون بالغلو فقالوا: لا يسمى بإثبات ولا نفي ولا يقال: موجود ولا لا موجود ولا حي ولا لا حي؛ لأن في الإثبات تشبيها له بالموجودات وفي النفي تشبها له بالمعدومات وكل ذلك تشبيه. فلما ظهر هؤلاء الجهمية أنكر السلف والأئمة مقالتهم وردوها وقابلوها بما تستحق من الإنكار الشرعي وكانت خفية إلى أن ظهرت وقويت شوكة الجهمية في أواخر المائة الأولى وأوائل الثانية في دولة أولاد الرشيد فامتحنوا الناس المحنة المشهورة التي دعوا الناس فيها إلى القول بخلق القرآن ولوازم ذلك: مثل إنكار الرؤية والصفات بناء على أن القرآن هو من جملة الأعراض؛ فلو قام بذات الله لقامت به الأعراض فيلزم التشبيه والتجسيم. وحدث مع الجهمية قوم شبهوا الله تعالى بخلقه؛ فجعلوا صفاته من جنس صفات المخلوقين فأنكر السلف والأئمة على الجهمية المعطلة وعلى المشبهة الممثلة وكان إمام المعتزلة ـ أبو الهذيل العلاف ـ ونحوه من نفاة الصفات قالوا: يقتضي أن يكون جسما والله تعالى منزه عن ذلك. قال هؤلاء: بل هو جسم والجسم هو القائم بنفسه أو الموجود أو غير ذلك من المقالات وطعنوا في أدلة نفاة الجسم بكلام طويل لا يتسع له الجواب هنا. ثم من هؤلاء من قال: هو جسم كالأجسام ومنهم من وصفه بخصائص المخلوقات وحكي عن كل واحدة من الطائفتين مقالات شنيعة. وجاء ـ أبو محمد بن كلاب ـ فقال هو وأتباعه: هو الموصوف بالصفات ولكن ليست الصفات أعراضا؛ إذ هي قديمة باقية لا تعرض ولا تزول ولكن لا يوصف بالأفعال القائمة به كالحركات؛ لأنها تعرض وتزول. فقال ابن كرام وأتباعه: لكنه موصوف بالصفات وإن قيل إنها أعراض وموصوف بالأفعال القائمة بنفسه وإن كانت حادثة. ولما قيل لهم: هذا يقتضي أن يكون جسما قالوا: نعم هو جسم كالأجسام وليس ذلك ممتنعا دائما وإنما الممتنع أن يشابه المخلوقات فيما يجب ويجوز ويمتنع ومنهم من قال: أطلق لفظ الجسم لا معناه. وبين هؤلاء المتكلمين النظار بحوث طويلة مستوفاة في غير هذا الموضع.
وأما [السلف والأئمة] فلم يدخلوا مع طائفة من الطوائف فيما ابتدعوه من نفي أو إثبات بل اعتصموا بالكتاب والسنة ورأوا ذلك هو الموافق لصريح العقل فجعلوا كل لفظ جاء به الكتاب والسنة من أسمائه وصفاته حقا يجب الإيمان به وإن لم تعرف حقيقة معناه وكل لفظ أحدثه الناس فأثبته قوم ونفاه آخرون فليس علينا أن نطلق إثباته ولا نفيه حتى نفهم مراد المتكلم فإن كان مراده حقا موافقا لما جاءت به الرسل والكتاب والسنة: من نفي أو إثبات قلنا به؛ وإن كان باطلا مخالفا لما جاء به الكتاب والسنة من نفي أو إثبات منعنا القول به ورأوا أن الطريقة التي جاء بها القرآن هي الطريقة الموافقة لصريح المعقول وصحيح المنقول وهي طريقة الأنبياء والمرسلين.
وأن الرسل صلوات الله عليهم جاءوا بنفي مجمل وإثبات مفصل؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات 180ـ182] فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب وطريقة الرسل هي ما جاء بها القرآن والله تعالى في القرآن يثبت الصفات على وجه التفصيل وينفي عنه - على طريق الإجمال - التشبيه والتمثيل.
فهو في القرآن يخبر أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه عزيز حكيم غفور رحيم وأنه سميع بصير وأنه غفور ودود وأنه تعالى - على عظم ذاته - يحب المؤمنين ويرضى عنهم ويغضب على الكفار ويسخط عليهم وأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش وأنه كلم موسى تكليما وأنه تجلى للجبل فجعله دكا؛ وأمثال ذلك. ويقول في النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء}؛ {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم 65] {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَال} [النحل 74] {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص] فيثبت الصفات وينفي مماثلة المخلوقات.
ولما كانت طريقة السلف، أن يصفوا الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. ومخالفو الرسل يصفونه بالأمور السلبية، ليس كذا، ليس كذا . فإذا قيل لهم: فأثبتوه، قالوا: هو وجود مطلق، أو ذات بلا صفات.
وقد علم بصريح المعقول أن المطلق بشرط الإطلاق، لا يوجد إلا في الأذهان، لا في الأعيان، وأن المطلق لا بشرط لا يوجد في الخارج مطلقًا، لا يوجد إلا معينًا، ولا يكون للرب عندهم حقيقة مغايرة للمخلوقات، بل إما أن يعطلوه أو يجعلوه وجود المخلوقات أو جزءها أو وصفها، والألفاظ المجملة يكفون عن معناها.
فإذا قال قوم: إن الله في جهة أو حيز، وقال قوم: إن الله ليس في جهة ولا حيز، استفهموا كل واحد من القائلين عن مراده، فإن لفظ الجهة والحيز فيه إجمال واشتراك. فيقولون: ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق، والله ـ تعالى ـ منزه بائن عن مخلوقاته، فإنه ـ سبحانه ـ خلق المخلوقات بائنة عنه، متميزة عنه، خارجة عن ذاته، ليس في مخلوقاته شىء من ذاته، ولا في ذاته شىء من مخلوقاته، ولو لم يكن مباينًا لكان إما مداخلاً لها حالاً فيها، أو محلا لها، والله ـ تعالى ـ منزه عن ذلك.
وإما ألا يكون مباينًا لها، ولا مداخلا لها فيكون معدومًا، والله ـ تعالى ـ منزه عن ذلك.
والجهمية ـ نفاة الصفات ـ تارة يقولـون بمـا يستلـزم الحلـول والاتحـاد، أو يصـرحون بذلك، وتارة بما يستلزم الجحود والتعطيل، فنفاتهم لا يعبدون شيئًا، ومثبتتهم يعبدون كل شىء ويقال ـ أيضًا: فإذا كان ما ثَمَّ موجود إلا الخالق والمخلوق، فالخالق بائن عن المخلوق.
فإذا قال القائل: هو في جهة أو ليس في جهة، قيل له: الجهة أمر موجود أو معدوم، فإن كان أمرًا موجودًا، ولا موجود إلا الخالق والمخلوق، والخالق بائن عن المخلوق، لم يكن الرب في جهة موجودة مخلوقة، وإن كانت الجهة أمرًا معدومًا بأن يسمى ما وراء العالم جهة، فإذا كان الخالق مباينًا العالم، وكان ما وراء العالم جهة مسماة وليس هو شيئًا موجودًا، كان الله في جهة معدومة بهذا الاعتبار . لكن لا فرق بين قول القائل: هو في معدوم، وقوله: ليس في شىء غيره، فإن المعدوم ليس شيئًا باتفاق العقلاء.
ولا ريب أن لفظ الجهة يريدون به تارة معنى موجودًا، وتارة معنى معدومًا، بل المتكلم الواحد يجمع في كلامه بين هذا وهذا، فإذا أزيل الاحتمال ظهر حقيقة الأمر، فإذا قال القائل: لو كان في جهة لكانت قديمة معه. قيل له: هذا إذا أريد بالجهة أمر موجود سواه، فالله ليس في جهة بهذا الاعتبار.
وإذا قال: لو رؤى لكان في جهة وذلك محال، قيل له: إن أردت بذلك، لكان في جهة موجودة فذلك محال، فإن الموجود يمكن رؤيته وإن لم يكن في موجود غيره، كالعالم فإنـه يمكن رؤية سطحه وليس هو في عالم آخر، وإن قال: أردت أنـه لابد أن يكون فيما يسمى جهة ولو معدومًا، فإنه إذا كان مباينًا للعالم سمى ما وراء العالم جهة. قيل له: فلم قلت: إنه إذا كان في جهة بهذا الاعتبار كان ممتنعًا؟ فإذا قال: لأن ما باين العالم ورؤى لا يكون إلا جسمًا أو متحيزًا، عاد القول إلى لفظ الجسم والمتحيز كما عاد إلى لفظ الجهة، فيقال له: المتحيز يراد به ما حازه غيره، ويراد به ما بان عن غيره ـ فكان متحيزًا عنه، فإن أردت بالمتحيز الأول لم يكن ـ سبحانه ـ متحيزًا؛ لأنه بائن عن المخلوقات لا يحوزه غيره، وإن أردت الثاني فهو ـ سبحانه ـ بائن عن المخلوقات منفصل عنها، ليس هو حالاً فيها ولا متحدًا بها.
فبهذا التفصيل يزول الاشتباه والتضليل، وإلا فكل من نفى شيئًا من الأسماء والصفات سمى من أثبت ذلك مجسمًا قائلاً بالتحيز والجهة. فالمعتزلة ونحوهم يسمون الصفاتية ـ الذين يقولون: إن الله ـ تعالى ـ حـي بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، يسمونهم ـ مُجَسِّمة مشبهة حشوية، والصفاتية هم السلف والأئمة وجميع الطوائف المثبتة للصفات، كالكُلاَّبية والكَرَّامية، والأشعرية، والسالمية، وغيرهم من طوائف الأمة، قالت نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة وطائفة من الفلاسفة لهؤلاء: إذا أثبتم له حياة وقدرة وكلامًا فهذه أعراض، والأعراض لا تقوم إلا بجسم، وإذا قلتم: يرى، فالرؤية لا تكون إلا لمعاين في جهة، وهذا يستلزم التجسيم.
فإذا قالت الأشعرية ومن اتبعهم: نحن نثبت هذه الصفات ولا نسميها أعراضًا؛ لأن العَرَض ما يعرض لمحله وهذه الصفات باقية لا تزول، قالت لهم النفاة: هذا نزاع لفظي، فإن العرض عندكم ينقسم إلى لازم لمحله لا يفارقـه ـ ما دام المحل موجودًا ـ وإلى مـا يجوز أن يفارق محله، فالأول كالتحيز للجسم، بل وكالحيوانية والناطقية للإنسان فإنه ما دام إنسانًا لا تفارقه هذه الصفة.
وأما قولكم: إن العرض لا يبقى زمانين، فهذا شىء انفردتم به من بين سائر العقلاء، وكابرتم به الحس، لتنجوا بالمغاليط عن هذه الإلزامات المفحمة، ثم إنكم تقولون بتجدد أمثاله، فهذا هو معنى بقاء العرض، وهذا كما قلتم: إنه يرى بلا مواجهة ولا مدابرة، ولا يتوجه إليه الرائي بجهة من جهاته، فهذا ـ أيضًا ـ مما انفردتم به عن العقلاء وكابرتم به الحس والعقـل، قالت لهم النفاة: فأثبتم مـا يستلزم التجسيم والتشبيه والحشو أو نفيتم التلازم فخالفتم صريح العقل والضرورة.
ولهذا صار حُذَّاقُكم إلى أنكم في الحقيقة موافقون لنا على نفي رؤية الله ـ تعالى ـ ولكن أظهرتم إثباتها لكونه المشهور عند الحشوية المشهورين بالسنة والجماعـة، ليقال: إنكم منهم، أو أثبتم ذلك تناقضًا منكم، فأنتم دائرون بين المناقضة والمداهنة.
فإن كان الرجل ممن يوافق نفاة الصفات ويثبت أسماء الله الحسنى ـ كما تفعل المعتزلة وهم أئمة الكلام ـ سماه نفاة أسماء الله الحسنى مشبهًا حشويًا مجسمًا، كما فعلت القرامطة الحاكمية الباطنية وغيرهم، وقالوا: إذا قلتم إنه موجود عليم حي قدير، فهذا هو القول بالتشبيه والتجسيم والحشو، فإن ذلك مشابهة لغيره من المخلوقات، ولأنه لا يعقل موجود حي عليم قدير إلا جسمًا، ولأن هذه الأسماء تستلزم الصفات، والصفات تستلزم التجسيم.
فإن كان الرجل ممن ينفي الأسماء والصفات ـ كما تفعله غلاة الجهمية والقرامطة والفلاسفة ـ فلابد له أن يثبت أنه موجود.
وحينئذ، فتقول له النفاة: أنت مُجَسِّم مُشَبِّه حَشَوِيٌّ؛ لأنه إذا كان موجودًا فقد شاركـه غيره في معنى الوجود وهو التشبيه؛ لأنه لا يعقل موجود إلا جسم أو قائم بجسم، فحينئذ يحتاج أن يقول: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، أو لا موجود ولا لا موجود، ولا حي ولا لا حي، فيلزم نفي النقيضين جميعًا وما هو في معنى النقيضين، وذلك من أعظم الأمور الباطلة في بديهة العقل، مع أنه يلزم على قياس قولهم تشبيهه بالممتنعات؛ لأن ما ليس بموجود ولا معدوم لا تكون له حقيقة أصلاً ـ لا موجودة ولا معدومة ـ بل هو أمر مقدر في الأذهان لا يتحقق في الأعيان، هذا مع ما التزمه من الكفر الصريح.
ولو قدر أنه نفي الوجود الواجب القديم بالكلية، لكان مع الكفر الذي هو أصل كل كفر قد كابر القضايا الضرورية، فإنا نشهد الموجودات ونعلم أن كل موجود إما قديم، وإما مُحْدَث، وإما واجب موجود بنفسه، وإما ممكن بنفسه موجود بغيره، وكل محدث وممكن بنفسه موجود بغيره، فلابد له من قديم واجب بنفسه، فالوجود بالضرورة يستلزم إثبات موجود قديم. ومن الوجود ما هو ممكن محدث، كما نشهده في المحدثات من الحيوان والنبات.
فإذا علم بضرورة العقول أن الوجود فيه ما هو موجود قديم واجب بنفسه، وفيه ما هو مُحدَث موجود ممكن بنفسه، فهذان الموجودان اتفقا في مسمى الوجود، وامتاز واحد منهما عن الآخر بخصوص وجوده، فمن لم يثبت مـا بين الموجودين من الاتفاق وما بينهما من الافتراق، وإلا لزمه أن تكون الموجودات كلهـا قديمة واجـبة بأنفسهـا، أو محدثة: ممكنة مفترقة إلى غيرها، وكلاهما معلوم الفساد بالاضطرار، فتعين إثبات الاتفاق من وجه والامتياز من وجه، ونحن نعلم أن ما امتاز به الخالق الموجود عن سائر الموجودات، أعظم ممـا تمتاز بـه سائر الموجودات بعضها عن بعض، فـإذا كان [الملك] و[البعوض] قد اشتركا في مسمى الوجود والحي، مع تفاوت ما بينهما، فالخالق ـ سبحانه ـ أولى بمباينته للمخلوقات، وإن حصلت الموافقة في بعض الأسماء والصفات.