الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ في الفروق التي يتبين بها كون الحسنة من الله والسيئة من النفس، وقوله: ففي الآية وأمثالها هو مقتضى فهو عام؛ فإن العلم بما أنذرت به الرسل يوجب الخوف، فإذا كان العلم يوجب الخشية الحاملة على فعل الحسنات وترك السيئات، وكل عاص فهو جاهل ليس بتام العلم، تبين ما ذكرنا من أن أصل السيئات الجهل وعدم العلم. وإذا كان كذلك فعدم العلم ليس شيئًا موجودًا، بل هو مثل عدم القدرة وعدم السمع وعدم البصر، والعدم ليس شيئًا، وإنما الشىء الموجود ـ والله خالق كل شىء ـ فلا يضاف العدم المحض إلى الله تعالى، لكن قد /يقترن به موجود، فإذا لم يكن عالمًا، والنفس بطبعها تحركه فإنها حية، والحركة الإرادية من لوازم الحياة، ولهذا أصدق الأسماء: الحارث والهمام، وفي الحديث: (مثل القلب مثل ريشة ملقاة) إلخ، وفيه: (القلب أشد تقلبًا من القدر إذا استجمعت غليانًا)، فإذا كان كذلك، فإن هداها الله علمها ما ينفعها وما يضرها، فأرادت ما ينفعها وتركت ما يضرها، والله سبحانه تفضل على بني آدم بأمرين؛ هما أصل السعادة: أحدهما: أن كل مولود يولد على الفطرة، كما في الصحيحين، ولمسلم عن عياض ابن حمار مرفوعًا: (إني خلقت عبادي حنفاء)الحديث، فالنفس بفطرتها إذا تركت كانت محبة لله تعبده لا تشرك به شيئًا، ولكن يفسدها من يزين لها من شياطين الإنس والجن، قال تعالى: الثاني: أن الله تعالى هدى الناس هداية عامة، بما جعل فيهم من العقل، وبما أنزل إليهم من الكتب، وأرسل إليهم من الرسل، قال تعالى: /لكن قد يعرض الإنسان عن طلب علم ما ينفعه وذلك الإعراض أمر عدمي، لكن النفس من لوازمها الإرادة والحركة فإنها حية حياة طبيعية، لكن سعادتها أن تحيا الحياة النافعة فتعبد الله، ومتى لم تحى هذه الحياة كانت ميتة، وكان ما لها من الحياة الطبيعية موجبًا لعذابها، فلا هي حية متنعمة بالحياة،ولا ميتة مستريحة من العذاب، قال تعالى: والقدرية يعترفون بهذا، وبأن الله خلق الإنسان مريدًا، لكن يجعلونه مريدًا بالقوة والقبول، أي قابلاً لأن يريد هذا وهذا، وأما كونه مريدًا لهذا المعين وهذا المعين، فهذا عندهم ليس مخلوقا لله، وغلطوا بل الله خالق هذا كله، وهو الذي ألهم النفس فجورها وتقواها، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم آت نفسي تقواها) إلخ، والله ـ سبحانه ـ جعل إبراهيم وأهل بيته أئمة يدعون بأمره، وجعل آل فرعون أئمة يدعون إلى النار، ولكن هذا إلى الله لوجهين من جهة علته الغائية، ومن جهة سببه: /أما العلة الغائية، فإنه إنما خلقه لحكمة هو باعتبارها خير، وإن كان شرًا إضافيًا، فإذا أضيف مفردًا توهم المتوهم مذهب جهم بن صفوان: أن الله خلق الشر المحض الذي لا خير فيه لأحد، لا لحكمة ولا لرحمة، والكتاب والسنة والاعتبار يبطل هذا، كما إذا قيل: محمد وأمته يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض؛ كان هذا ذما لهم، وكان باطلاً، وإذا قيل: يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا ويقتلون من منعهم من ذلك؛ كان هذا مدحًا لهم وكان حقًا. فإذا قيل: إن الرب ـ تعالى ـ حكيم رحيم أحسن كل شىء خلقه وهو أرحم الراحمين، والخير بيديه والشر ليس إليه، لا يفعل إلا خيرًا، وما خلقه من ألم لبعض الحيوان، ومن أعماله المذمومة، فله فيه حكمة عظيمة ونعمة جسيمة، كان هذا حقًا وهو مدح للرب. وأما إذا قيل: يخلق الشر الذي لا خير فيه، ولا منفعة لأحد، ولا له فيه حكمة ولا رحمة، ويعذب الناس بلا ذنب، لم يكن مدحًا له بل العكس، وقد بينا بعض ما في خلق جهنم وإبليس والسيئات من الحكمة والرحمة وما لم نعلم أعظم، والله ـ سبحانه وتعالى ـ يستحق الحمد والحب والرضا لذاته ولإحسانه هذا حمد شكر، وذاك حمد مطلقا. وقد ذكرنا في غير هذا أن ما خلقه فهو نعمة يستحق عليها الشكر، وهو من آلائه؛ ولهذا قال في آخر سورة النجم: قلت: ضمن تتمارى معنى تكذِّب؛ ولهذا عداه بالتاء، فإنه تفاعل من المراء، يقال: تمارينا في الهلال، ومراء في القرآن كفر، وهو يكون لتكذيب وتشكيك، ويقال: لما كان الخطاب لهم، قال: تتمارى، أي يتمارون، ولم يقل: تمتري؛ لأن التفاعل يكون بين اثنين. قالوا: ففي كل ما خلقه إحسان إلى عباده يشكر عليه، وله فيه حكمة تعود إليه/ يستحق أن يحمد عليها لذاته، فجميع المخلوقات فيها إنعام إلى عباده كالثقلين المخاطبين بقوله: وما يصيب الإنسان إن كان يسره فهو نعمة بينة، وإن كان يسوؤه فهو نعمة؛ لأنه يكفر خطاياه ويثاب عليه بالصبر، ومن جهة أن فيه حكمة ورحمة لا يعلمها العبد، /وأيضًا، صاحب السراء أحوج إلى الشكر، وصاحب الضراء أحوج إلى الصبر، فإن صبر هذا وشكر هذا واجب، وأما صبر السراء فقد يكون مستحبًا، وصاحب الضراء قد يكون الشكر في حقه مستحبًا، واجتماع الشكر والصبر يكون مع تألم النفس وتلذذها، وهذا حال يعسر على كثير وبسطه له موضع آخر. والمقصود أن الله ـ تعالى ـ منعم بهذا كله؛ وإن كان لا يظهر في الابتداء لأكثر الناس، فإن الله يعلم وأنتم لا تعلمون،وأما ذنوب الإنسان فهي من نفسه، ومع هذا فهي مع حسن العاقبة نعمة،وهي نعمة على غيره لما يحصل له بها من الاعتبار، ومن هذا قوله:"اللهم لا تجعلني عبرة لغيري، ولا تجعل غيري أسعد بما علمتني مني"، وفي دعاء القرآن: والله ـ تعالى ـ في القرآن يذكر آياته الدالة على قدرته وربوبيته، ويذكر آياته التي فيها نعمه إلى عباده، ويذكر آياته المبينة لحكمته، وهي متلازمة، لكن نعمة الانتفاع بالمآكل والمشارب والمساكن والملابس ظاهرة لكل أحد؛ فلهذا استدل بها في [سورة النحل]، وتسمى [سورة النعم]، كما قاله قتادة وغيره. وعلى هذا فكثير من الناس يقول: الحمد أعم من الشكر من جهة أسبابه؛ فإنه يكون على نعمة وغيرها، والشكر أعم من جهة أنواعه، فإنه يكون /بالقلب واللسان واليد، فإذا كان كل مخلوق فيه نعمة، لم يكن الحمد إلا على نعمة، والحمد لله على كل حال. لكن هذا فهم من عرف ما في المخلوقات من النعم، والجهمية والجبرية بمعزل عن هذا، وكذلك القدرية الذين يقولون: لا تعود الحكمة إليه، بل ما ثم إلا نفع الخلق، فما عندهم إلا شكر، كما ليس عند الجهمية إلا قدرة، والقدرة المجردة عن نعمة وحكمة لا يظهر فيها وصف حمد، وحقيقة مذهبهم: أنه لا يستحق الحمد؛ فله ملك بلا حمد، كما أن عند المعتزلة له نوع من الحمد بلا ملك، وعند السلف له الملك والحمد تامين. قال تعالى: والجهمي الجبري لا يثبت عدلاً ولا حكمة، ولا توحيد إلهيته، بل توحيد ربوبيته، والمعتزلي لا يثبت توحيد إلهيته، ولا عدلا ولا عزة ولا حكمة، وإن قال: إنه يثبت حكمة ما، معناها يعود إلى غيره، فتلك لا تكون حكمة، فمن فعل لا لأمر يرجع إليه بل لغيره، فهذا عند العقلاء قاطبة ليس بحكيم، وإذا كان الحمد لا يقع إلا على نعمة، فقد ثبت أنه رأس الشكر، فهو أول الشكر والحمد،/ وإن كان على نعمة وعلى حكمة، فالشكر بالأعمال هو على نعمته، وهو عبادة له لإلهيته التي تتضمن حكمته، فقد صار مجموع الأمور داخلا في الشكر. ولهذا عظم القرآن أمر الشكر، ولم يعظم أمر الحمد مجردًا إذ كان نوعًا من الشكر، وشرع الحمد الذي هوالشكر مقولا أمام كل خطاب مع التوحيد، ففي الفاتحة الشكر مع التوحيد، والخطب الشرعية لابد فيها من الشكر والتوحيد. والباقيات الصالحات نوعان: فسبحان الله وبحمده فيها الشكر والتنزيه والتعظيم، ولا إله إلا الله والله أكبر فيها التوحيد والتكبير، وقد قال تعالى: وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع يقول: [ربنا ولك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شىء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولامعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) هذا لفظ الحديث.و[أحق] أفعل التفضيل، وقد غلط فيه طائفة فقالوا: حق ما قال العبد، وهذا ليس بسديد، فإن العبد يقول الحق والباطل؛ بل حق ما يقوله الرب، كما قال: /وإذا قيل: يخلق ما هو شر محض، لم يكن هذا موجبًا لمحبة العباد له، وحمدهم، بل العكس؛ ولهذا كثير من هؤلاء ينطقون بالذم والشتم نظمًا ونثرًا، وكثير من شيوخهم وعلمائهم يذكر ذلك، وإن لم يقله بلسانه، فقلبه ممتلئ به، لكن يرى أن ليس في ذكره منفعة، أو يخاف من المسلمين، وفي شعر طائفة من الشيوخ ذكر نحو هذا، ويقيمون حجج إبليس وأتباعه على الله، وهو خلاف ما وصف به نفسه في قوله: ونفسه متحركة بالطبع حركة لابد فيها من الشر حكمة بالغة ونعمة سابغة. فإذا قيل: فلم لا خلقها على غير هذا الوجه؟ قيل: كان يكون ذلك خلقًا غير الإنسان، وكانت الحكمة بخلقه لا تحصل، وهذا سؤال الملائكة حيث قالوا: وأما الوجه الثاني: من جهة السبب فإن هذا الشر إنما وجد لعدم العلم والإرادة التي تصلح النفس، فإنها خلقت بفطرتها تقتضي معرفة الله ومحبته، وقد هديت إلى علوم وأعمال تعينها على ذلك، وهذا كله من فضل الله وإحسانه؛ لكن النفس المدينة لما حصل لها من زين لها السيئات من شياطين الإنس والجن مالت إلى ذلك، وكان ذلك مركبًا من عدم ما ينفع، وهذا الأصل ووجود هذا العدم لا يضاف إلى الله ـ تعالى ـ وهؤلاء القول فيهم كالقول فيها، خلقهم لحكمة، فلما كان عدم ما تصلح به هو أحد السببين، والشر المحض هو العدم المحض، وهو ليس شيئًا، والله خالق كل شىء فكانت السيئات منها باعتبار أنها مستلزمة للحركة الإرادية. والعبد إذا اعترف أن الله خالق أفعاله، فإن اعترف إقرارًا بخلق الله لكل شىء وبكلماته التامات، واعترافًا بفقره إليه، وأنه إن لم يهده فهو ضال، فخضع لعزته وحكمته، فهذا حال المؤمنين، وإن اعترف احتجاجًا بالقدر، فهذا الذنب أعظم من الأول، وهذا من أتباع الشيطان. وهنا سؤال سأله طائفة: وهو أنه لا يقضي للمؤمن من قضاء إلا كان خيرًا /له، وقد قضى عليه السيئات، وعنه جوابان: أحدهما: أن أعمال العباد لم تدخل في الحديث؛ ولكن ما يصيبه من النعم والمصائب؛ ولهذا قال: (إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له) إلخ. وهذا ظاهر اللفظ فلا إشكال. والثاني: إن قدر دخولها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من سرته حسنته وساءته سيئته فهو المؤمن)، فإذا قضى له بأن يحسن فهو مما يسره، فإذا قضى له بسيئة، فهو إما يستحق العقوبة إذا لم يتب،فإن تاب أبدلت حسنة فيشكر عليها،وإن لم يتب ابتلى بمصائب تكفرها فيصبرعليها فيكون ذلك خيرًا له وهو قال: لا يقضى الله للمؤمن، والمؤمن المطلق هو الذي لا يضره الذنب؛ بل يتوب منه فيكون حينئذ كما جاء في عدة آثار: إن العبد ليعمل الذنب فيدخل به الجنة،يعمله فلا يزال يتوب منه حتى يدخل بتوبته منه الجنة والذنب يوجب ذل العبد وخضوعه واستغفاره وشهوده لفقره، وفاقته إليه سبحانه. وفي قوله: فإنه إذا هداه هذا الصراط، أعانه على طاعته وترك معصيته فلم يصبه شر لا في الدنيا ولا في الآخرة، والذنوب من لوازم النفس، وهو محتاج إلى الهدى كل لحظة، وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الأكل والشرب، ويدخل في ذلك من أنواع الحاجات ما لا يمكن إحصاؤه؛ ولهذا أمر به في كل صلاة لفرط الحاجة إليه، وإنما يعرف بعض قدره من اعتبر أحوال نفسه ونفوس الإنس والجن المأمورين بهذا الدعاء، ورأى ما فيها من الجهل والظلم الذي يقتضى شقاءها في الدنيا، والآخرة، فيعلم أن الله تعالى بفضله ورحمته جعل هذا الدعاء من أعظم الأسباب المقتضية للخير المانعة من الشر. ومما يبين ذلك أن الله ـ تعالى ـ لم يقص علينا في القرآن قصة أحد إلا لنعتبرها، وإنما يكون الاعتبار إذا قسنا الثاني بالأول، وكانا مشتركين في المقتضى والحكم، فلولا أن في نفوس الناس من جنس ما كان في نفوس المكذبين للرسل ـ فرعون ومن قبله ـ لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه قط؛ لكن الأمر كما قال تعالى: ولما كان في غزوة حنين، كان للمشركين سدرة يعلقون عليها أسلحتهم، فقال بعض الناس: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر قلتم ـ والذي نفسي بيده ـ كما قال أصحاب موسى: وقد بين القرآن أن السيئات من النفس وإن كانت بقدر الله فأعظمها جحود الخالق والشرك به، وطلب النفس أن تكون شريكة له سبحانه، أو إلها من دونه، وكل هذين وقع، فإن فرعون وإبليس كل واحد منهما يطلب أن يعبد ويطاع من دون الله، وهذا الذي في فرعون وإبليس غاية الظلم والجهل، وفي نفوس سائر الإنس والجن شعبة من هذا، وهذا إن لم يعن الله العبد ويهده وإلا وقع في بعض ما وقع فيه فرعون وإبليس بحسب الإمكان، قال بعض العارفين: ما من نفس إلا وفيها ما في نفس فرعون، إلا أنه قدر فأظهر، وغيره عجز فأضمر. /وذلك أن الإنسان إذا اعتبر وتعرف نفسه والناس رأى الواحد يريد نفسه أن تطاع وتعلو بحسب الإمكان، والنفوس مشحونة بحب العلو والرئاسة بحسب إمكانها، فتجده يوالي من يوافقه على هواه، ويعادي من يخالفه في هواه، وإنما معبوده ما يهواه ويريده، قال تعالى: والواحد من هؤلاء يريد أن يطاع أمره بحسب إمكانه، لكنه لا يتمكن مما تمكن منه فرعون من دعوى الإلهية وجحود الصانع، وهؤلاء وإن أقروا بالصانع، فإذا جاءهم من يدعوهم إلى عبادة الله المتضمنة ترك طاعتهم عادوه، كما عادى فرعون موسى ـ عليه السلام ـ وكثير من الناس عنده عقل وإيمان لا يطلب هذا الحد، بل تطلب نفسه ما هو عنده، فإذا كان مطاعًا مسلمًا طلب أن يطاع في أغراضه، وإن كان فيها ما هو ذنب ومعصية لله، ويكون من أطاعه أحب إليه وأعز عنده ممن أطاع الله وخالف هواه، وهذه شعبة من حال فرعون وسائر المكذبين للرسل. وإن كان عالمًا أو شيخًا أحب من يعظمه دون من يعظم نظيره، وربما أبغض نظيره حسدًا وبغيًا، كما فعلت اليهود لما بعث الله تعالى من يدعو إلى مثل ما دعى إليه /موسى قال تعالى: والله ـ سبحانه ـ إنما خلق الخلق لعبادته ليذكروه ويشكروه ويعبدوه، وأرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبدوه وحده، ويكون الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا، قال تعالى: قال قتادة: أي: دينكم واحد، وربكم واحد، والشريعة مختلفة، وكذلك قال الضحاك. وعن ابن عباس: أي دينكم دين واحد، قال ابن أبي حاتم، وروى عن سعيد بن جبير وقتادة وعبد الرحمن نحو ذلك. قال الحسن: بين لهم ما يتقون، وما يأتون، ثم قال: إن هذه سنتكم سنة واحدة، وهكذا قال/ جمهور المفسرين، والأمة: الملة والطريقة، كما قال: وأمر الله ـ تعالى ـ الرسل أن تكون ملتهم ودينهم واحدًا، لا يتفرقون فيه كما في الصحيحين: (إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد)، وقال تعالى: فالمتبع للرسل يأمر الناس بما أمرتهم به الرسل؛ ليكون الدين لله لا له، /فإذا أمر غيره بمثل ذلك، أحبه وأعانه وسر به؛ وإذا أحسن إلى الناس، فإنما يحسن إليهم ابتغاء وجه ربه الأعلى، ويعلم أن الله قد من عليه بأن جعله محسنًا فيرى أن عمله لله وبالله، وهذا مذكور في الفاتحة: وقد أبطل الله صدقة المنان وصدقة المرائي، فقال تعالى: /الفرق السادس: أن ما يبتلى به من الذنوب وإن كان خلقًا لله فهو عقوبة له على عدم فعل ما خلقه الله له وفطره عليه، فإنه خلقه لعبادته وحده، ودل عليه الفطرة، فلما لم يفعل ما خلق له وما فطر عليه، عوقب على ذلك، بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي، قال تعالى: فتبين أن الإخلاص يمنع من تسلط الشيطان، كما قال تعالى: وهذا الوجه إذا حقق يقطع مادة كلام طائفتي القدرية المكذبة والمجبرة الذين يقولون: خلقها لذلك، والتعذيب لهم ظلم، يقال لهم: إنما أوقعهم فيها وطبع على قلوبهم عقوبة لهم، فما ظلمهم ولكن ظلموا أنفسهم، يقال: ظلمته، إذا نقصته حقه، قال تعالى: وكثير منهم يسلمون أن الله خلق من الأعمال ما يكون جزاء على عمل متقدم، ويقولون: خلق طاعة المطيع لكن ما خلق شيئًا من الذنوب ابتداء، بل جزاءً ،فيقولون: أول ما يفعل العبد لم يحدثه الله، وما ذكرنا يوجب أن يكون الله خالق كل شىء، لكن أولها عقوبة على عدم فعله لما خلق له، والعدم لا يضاف إلى الله، فما أحدثه فأوله عقوبة على هذا العدم، وسائرها قد يكون عقوبة على ما وجد، وقد يكون عقوبة على استمراره على العدم، فما دام لا يخلص لله لا يزال مشركًا والشيطان مسلط عليه. ثم تخصيصه ـ سبحانه ـ لمن هداه بأن استعمله ابتداء فيما خلق له تخصيص بفضله، وهذا منه لا يوجب الظلم ولا يمنع العدل؛ ولهذا يقول تعالى: ومما ذكر فيه العقوبة على عدم الإيمان قوله تعالى: الفرق السابع: أن السيئات التي هي المصائب ليس لها سبب إلا ذنبه الذي من نفسه، وما يصير من الخير لا تنحصر أسبابه؛ لأنه من فضل الله يحصل بعمله وبغيره عمله، وعمله من إنعام الله عليه، وهو ـ سبحانه ـ لا يجزيه بقدر العمل، بل يضاعفه، فلا يتوكل إلا على الله ولا يرجع إلا إليه، فهو يستحق الشكر المطلق العام التام، وإنما يستحق غيره من الشكر ما يكون جزاء على ما يسره الله على يديه من الخير، كشكر الوالدين، فإنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس؛ لكن لا يبلغ من قول أحد وإنعامه أن يشكر بمعصية الله أو يطاع بمعصيته، فإنه هو/ المنعم، قال تعالى: والمقصود أنه إذا عرف أن النعم كلها من الله، صار توكله ورجاؤه له سبحانه، وإذا علم ما يستحقه من الشكر الذي لا يستحقه غيره. والشر انحصر سببه في النفس، فعلم من أين يأتي، فاستغفر واستعان بالله واستعاذ به مما لم يعمل بعد؛ كما قال من قال من السلف: لا يرجْوَنَّ عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه، وهذا خلاف قول الجهمية الذين يقولون: يعذب بلا ذنب، ويخافونه ولو لم يذنبوا، فإذا صدق بقوله: /الفرق الثامن: أن السيئة إذا كانت من النفس،والسيئة خبيثة مذمومة،ووصفها بالخبث في مثل قوله: وإذا علم أن السيئة من نفسه لم يطمع في السعادة التامة مع ما فيه من الشر، بل علم تحقيق قوله: نوع في الأسماء والصفات، فغلا في النفي، ووافقه على ذلك الباطنية والفلاسفة ونحوهم، والمعتزلة في الصفات دون الأسماء، والكلابية ومن وافقهم من الفقهاء وأهل الحديث في نفي الصفات الاختيارية، والكَرَّامية ونحوهم وافقوه على أصل ذلك، وهو امتناع دوام ما لا يتناهى، وأنه يمتنع أن يكون لم يزل متكلمًا إذا شاء، وفعّالاً إذا يشاء لامتناع حوادث لا أول لها، وعن هذا الأصل نفي وجود ما لا يتناهي في المستقبل، وقال بفناء الجنة والنار، ووافقه أبو الهذيل إمام المعتزلة على هذا لكن قال تتناهى الحركات. فالمعتزلة في الصفات مخانيث الجهمية، وأما الكلابية في الصفات. وكذلك الأشعرية، ولكنهم كما قال أبو إسماعيل الأنصاري: الأشعرية الإناث هم مخانيث المعتزلة، ومن الناس من يقول: المعتزلة مخانيث الفلاسفة؛ لأنه لم يعلم أن جهما سبقهم إلى هذا الأصل، أو لأنهم مخانيثهم من بعض الوجوه، والشهرستاني يذكر أنهم أخذوا ما أخذوا عن الفلاسفة؛ لأنه إنما يرى مناظرة أصحابه الأشعرية معهم بخلاف أئمة السنة، فإن مناظرتهم إنما كانت مع الجهمية، وهم المشهورون عند/ السلف بنفي الصفات، وبهذا تميزوا عند السلف عن سائر الطوائف. وأما المعتزلة، فامتازوا بالمنزلة بين المنزلتين لما أحدثه عمرو بن عبيد، وكان هو وأصحابه يجلسون معتزلين للجماعة، فيقول قتادة وغيره: أولئك المعتزلة، وكان ذلك بعد موت الحسن. وبدعة القدرية حدثت قبل ذلك بعد موت معاوية؛ ولهذا تكلم فيهم ابن عمر وابن عباس وغيرهما، وابن عباس مات قبل ابن الزبير، وابن عمر مات عقب موته، وعقب ذلك تولى الحجاج العراق سنة بضع وسبعين، فبقى الناس يخوضون في القدر بالحجاز والشام والعراق، وأكثره كان بالشام والعراق والبصرة، وأقله كان بالحجاز فلما حدثت المعتزلة وتكلموا بالمنزلة بين المنزلتين، وقالوا: بإنفاذ الوعيد وخلود أهل التوحيد، وأن النار لا يخرج منها من دخلها ضموا إلى ذلك القدر فإنه به يتم. ولم يكن الناس إذ ذاك أحدثوا شيئًا من نفي الصفات، إلى أن ظهر الجعد بن درهم وهو أولهم، فضحى به خالد بن عبد الله القسري، وقال: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم؛ أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليما ـ تعالى الله عما يقول الجعد علوًا كبيرًا ـ ثم نزل فذبحه، وهذا كان بالعراق. /ثم ظهر جهم من ناحية المشرق من ترمذ، ومنها ظهر رأى جهم؛ ولهذا كان علماء السنة بالمشرق أكثر كلامًا في رد مذهبهم من أهل الحجاز والشام والعراق، مثل إبراهيم بن طهمان، وخارجة بن مصعب، ومثل عبد الله بن المبارك، وأمثالهم ،وقد تكلم في ذمهم مالك وابن الماجشون وغيرهما، وكذلك الأوزاعي، وحماد بن زيد وغيرهم، وإنما اشتهرت مقالتهم من حين محنة الإمام أحمد وغيره من علماء السنة، فإنهم في إمارة المأمون قووا وكثروا، فإنه قد كان بخراسان مدة واجتمع بهم، ثم كتب بالمحنة من طرسوس سنة ثمانية عشرة ومائتين، وفيها مات، وردوا أحمد إلى الحبس ببغداد إلى سنة عشرين ومائتين، وفيها كانت محنته مع المعتصم، ومناظرته لهم، فلما رد عليهم ما احتجوا به، وذكر أن طلبهم من الناس أن يوافقوهم وامتحانهم إياهم جهل وظلم، وأراد المعتصم إطلاقه أشار عليه من أشار بأن المصلحة ضربه لئلا تنكسر حرمة الخلافة، فلما ضربوه قامت الشناعة في العامة وخافوا فأطلقوه، وكان ابن أبي دؤاد قد جمع له نفاة الصفات من جميع الطوائف. وعلماء السنة: كابن المبارك وأحمد وإسحاق والبخاري يسمون هؤلاء جميعهم جهمية، وصار كثير من المتأخرين من أصحاب أحمد وغيرهم يظنون أن خصومه كانوا هم المعتزلة، وليس كذلك، بل المعتزلة نوع منهم. والمقصود هنا أن جهما اشتهر عنه بدعتان: إحداهما: نفي الصفات. والثانية: الغلو في القدر والإرجاء. فجعل/ الإيمان مجرد معرفة القلب، وجعل العباد لا فعل لهم ولا قدرة، وهذان مما غلت المعتزلة في خلافه فيهما، وأما الأشعري فوافقه على أصل قوله، ولكن قد ينازعه منازعات لفظية. وجهم لا يثبت شيئًا من الصفات، لا الإرادة ولا غيرها، فإذا قال: إن الله يحب الطاعات ويبغض المعاصي، فمعناه الثواب والعقاب، والأشعري يثبت الصفات كالإرادة فاحتاج إلى الكلام فيها هل هي المحبة أم لا؟ فقال: المعاصي يحبها الله ويرضاها كما يريدها، وذكر أبو المعالي أنه أول من قال ذلك، وأهل السنة قبله على أن الله لا يحب المعاصي. وشاع هذا القول في كثير من الصوفية فوافقوا جهما في مسائل الأفعال والقدر، وخالفوه في الصفات كأبي إسماعيل الأنصاري صاحب ذم الكلام، فإنه من المبالغين في ذم الجهمية في نفي الصفات، وله كتاب في تكفير الجهمية، ويبالغ في ذم الأشعرية مع أنهم من أقرب هذه الطوائف إلى السنة، وربما كان يلعنهم، وقال بعض الناس بحضرة نظام الملك: أتلعن الأشعرية ؟ فقال: ألعن من يقول ليس في السموات إله، ولا في المصحف قرآن، ولا في القبر نبي، وقام من عنده مغضبًا، وهو مع هذا في مسألة إرادة الكائنات وخلق الأفعال أبلغ من الأشعرية، لا يثبت سببًا ولا حكمة، بل يقول: إن مشاهدة العارف الحكم لا يبقى له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة، والحكم عنده هو المشيئة؛ لأن العارف عنده من يصل إلى مقام الفناء، والحسنة والسيئة يفترقان في حظ العبد/ لكونه ينعم بهذه ويعذب بهذه، والالتفات إلى هذا من حظوظ النفس، ومقام الفناء ليس فيه إلا مشاهدة مراد الحق. والأشعري لما أثبت الفرق بين هذا وهذا من جهة المخلوق كان أعقل منهم، فإنهم يدعون أن العارف لا يفرق، وغلطوا في حق العبد وحق الرب، أما العبد فيلزمهم أن يستوى عنده جميع الحوادث، وهذا محال قطعًا، فعزلوا الفرق الرحماني، وفرقوا بالطبعي الهوائي الشيطاني، ومن هنا وقع خلق منهم في المعاصي، وآخرون في الفسوق، وآخرون في الكفر حتى جوزوا عبادة الأصنام، ثم كثير منهم ينتقل إلى الوحدة ويصرحون بعبادة كل موجود. والمقصود الكلام على من نفى الحكم والأسباب والعدل في القدر موافقة لجهم ـ وهي بدعته الثانية بخلاف الإرجاء، فإنه منسوب إلى طوائف غيره ـ فهؤلاء يقولون: إن الرب يجوز أن يفعل كل ما يقدر عليه؛ ولهذا تجد من اتبعهم غير معظم للأمر والنهي، والوعد والوعيد، بل ينحل عنه أو عن بعضه، ويتكلف لما يعتقده، فإنهم إذا وافقوا جهما والأشعري في أن الحسن والقبيح كونه مأمورًا أو محظورًا، وذلك فرق يعود إلى حظ العبد، وهم يدعون الفناء عن الحظوظ، فتارة يقولون في امتثال الأمر والنهي: إنه من مقام التلبيس، وتارة يقولون: يفعل هذا لأجل أهل المارستان، أي العامة، كما يقوله الشيخ المغربي، إلى أنواع أخر. /ومن سلك مسلكهم إذا عظم الأمر والنهي غايته أن يقول كما نقل عن الشاذلي: يكون الجمع في قلبك مشهودًا، والفرق على لسانك موجودًا، كما يوجد في كلامه وكلام غيره أقوال وأدعية وأحزاب تستلزم تعطيل الأمر والنهي؛ مثل دعوى أن الله يعطيه على المعصية أعظم مما يعطيه على الطاعة، ونحو هذا مما يوجب أنه يجوز عنده أن يجعل الذين اجترحوا السيئات كالذين آمنوا وعملوا الصالحات أو أفضل، ويدعون بأدعية فيها اعتداء كما يوجد في حزب الشاذلي. وآخرون من عوامهم يجوزون أن يكرم الله بكرامات أكبر الأولياء من يكون فاجرًا، بل كافرًا، ويقولون: هذه موهبة وعطية، ويظنون أن تلك من كرامات الأولياء، وتكون من الأحوال الشيطانية التي يكون مثلها للسحرة والكهان، قال تعالى: /وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سَنَن من كان قبلكم حذو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جحر ضَبّ لدخلتموه) الحديث. والمسلمون الذين جاءهم كتاب الله القرآن عدل كثير ممن أضله الشيطان من المنتسبين إليهم إلى أن نبذ كتاب الله وراء ظهره، واتبع ماتتلوه الشياطين، فلا يعظم من أمر القرآن بموالاته، ويعادى من أمر القرآن بمعاداته، بل يعظم من رآه يأتي ببعض الخوارق التي تأتي بمثلها السحرة والكهان بإعانة الشياطين لهم، وهي تحصل بما تتلوه الشياطين. ثم منهم من يعرف أن هذا من الشياطين، ولكن يعظمه لهواه ويفضله على طريقة القرآن، وهؤلاء كفار، كالذين قال الله تعالى فيهم: ومنهم من لا يعرف أنه من الشياطين، وقد يقع في هذا طوائف من أهل الكلام والعلم، وأهل العبادة والتصوف، حتى جوزوا عبادة الكواكب والأصنام لما رأوه فيها من الأحوال العجيبة التي تعينهم عليها الشياطين، لما يحصل بها بعض أغراضهم من الظلم والفواحش ،فلم يبالوا بشركهم بالله وبكفرهم به وبكتابه إذا/ نالوا ذلك، ولم يبالوا بتعليم ذلك للناس وتعظيمهم له لرئاسة أو مال ينالونه، وإن كانوا قد علموا الكفر والشرك ودعوا إليه، بل حصل عندهم ريب وشك فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ،واعتقاد أنه خاطب الجمهور بما لا حقيقة له في الباطن للمصلحة، كما يقول ذلك من يقوله من الملاحدة الباطنية، ودخل في رأي هؤلاء طائفة من هؤلاء وهؤلاء، وهذا مما ضاهوا به فارس والروم. فإن فارس كانت تعظم الأنوار، وتسجد للشمس وللنار، والروم كانوا قبل النصرانية مشركين، يعبدون الكواكب والأصنام، فهؤلاء شر من الذين أشبهوا اليهود والنصارى، فإن هؤلاء ضاهوا أهل الكتاب فيما بدل أو نسخ، وهؤلاء ضاهوا من لا كتاب له.
وقال رحمه الله تعالى:
فالنفوس مفطورة على علم ضروري موجود فيها بالخالق الذي خلق السماوات ، وأنه خلق السماوات والأرض ليس شيئ منها خلق الناس ، كما قال موسى لفرعون لما قال له :
|