الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
فأجاب: الحمد لله، نكاح الكتابية جائز بالآية التى فى المائدة قال تعالى: وهو اليوم مذهب طائفة من أهل البدع، وقد احتجوا بالآية التى فى سورة البقرة وبقوله: أحدها: أن أهل الكتاب لم يدخلوا فى المشركين، فجعل أهل الكتاب غير المشركين، بدليل قوله: فإن قيل: فقد وصفهم بالشرك بقوله: فإذا قيل: أهل الكتاب لم يكونوا من هذه الجهة مشركين؛ فإن الكتاب الذى أضيفوا إليه لا شرك فيه، كما إذا قيل: المسلمون وأمة محمد لم يكن فيهم من هذه الجهة لا اتحاد، ولا رفض، ولا تكذيب بالقدر، ولا غير ذلك من البدع، وإن كان بعض الداخلين فى الأمة قد ابتدع هذه البدع، لكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة. فلا يزال فيها من هو متبع لشريعة التوحيد، بخلاف أهل الكتاب، ولم يخبر الله ـ عز وجل ـ عن أهل الكتاب أنهم مشركون بالاسم، بل قال: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} بالفعل، وآية البقرة قال فيها: {المشركين} و {المشركات} بالاسم، والاسم أوكد من الفعل. الوجه الثانى: أن يقال: إن شملهم لفظ {المشركين} فى سورة البقرة كما وصفهم بالشرك،فهذا متوجه بأن يفرق بين دلالة اللفظ مفرداً ومقروناً،فإذا أفردوا دخل فيهم أهل الكتاب، وإذا قرنوا بأهل الكتاب لم يدخلوا فيهم، كما قيل مثل هذا فى اسم الفقير والمسكين ونحو ذلك، فعلى هذا يقال: آية البقرة عامة، وتلك خاصة، والخاص يقدم على العام. الوجه الثالث: أن يقال: آية المائدة ناسخة لآية البقرة؛ لأن المائدة نزلت بعد البقرة باتفاق العلماء، وقد جاء فى الحديث المائدة من [آخر ما وجد من الأصل].
وقال شيخ الإِسَلام ـ رَحِمهُ الله: لما ذكر ـ سبحانه ـ ما يبطل الصدقة من المن والأذى ومن الرياء، ومثله بالتراب على الصَّفْوان [أى الحجارة الملس. انظر: المصباح المنير، مادة: صفو] إذا أصابه المطر؛ ولهذا قال: فإنه فى معرض الذم، فذكر غايته وذكر ما يقابله وهم الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم. فالأول الإخلاص. والتثبيت: هو التثبت كقوله: وقوله: {من أنفسهم} أى:ليس المقوى له من خارج كالذى يثبت وقت الحرب لإمساك أصحابه له، وهذا كقوله: وقد ذكر الله ـ سبحانه ـ فى البقرة والنساء الأقسام الأربعة فى العطاء. إما ألا يعطى فهو البخيل المذموم فى النساء، أو يعطى مع الكراهة والمن والأذى، فلا يكون بتثبيت وهو المذموم فى البقرة، أو مع الرياء فهو المذموم فى السورتين، فبقى القسم الرابع: ابتغاء رضوان اللّه وتثبيتاً من أنفسهم. ونظيره الصلاة؛ إما ألا يصلى، أو يصلى رياء أو كسلان، أو يصلى مخلصاً، والأقسام الثلاثة الأُول مذمومة. وكذلك الزكاة، ونظير ذلك الهجرة والجهاد؛ فإن الناس فيهما أربعة أقسام، وكذلك فعامة هذه الأشفاع التى فى القرآن: إما عملان،و إما وصفان فى عمل؛ انقسم الناس فيها قسمة رباعية، ثم إن كانا عملين منفصلين كالصلاة والصبر، والصلاة والزكاة ونحو ذلك نفع أحدهما ولو ترك الآخر، وإن كانا شرطين فى عمل كالإخلاص والتثبت لم ينفع أحدهما، فإن المن والأذى محبط، كما أن الرياء محبط، كما دل عليه القرآن، ومن هذا تقوى اللّه وحسن الخلق؛ فإن اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، والبر والتقوى والحق والصبر، وأفضل الإيمان السماحة والصبر. بخلاف الأشفاع فى الذم كالإفك والإثم، والاختيال والفخر، والشح والجبن، والإثم والعدوان؛ فإن الذم ينال أحدهما مفرداً ومقروناً، لأن الخير من باب المطلوب وجوده لمنفعته، فقد لا تحصل المنفعة إلا بتمامه، والشر يطلب عدمه لمضرته وبعض المضار يضر فى الجملة غالباً؛ ولهذا فرق فى الأسماء بين الأمر والنهى، والإثبات والنفى، فإذا أمر بالشىء اقتضى كماله، وإذا نهى عنه اقتضى النهى عن جميع أجزائه؛ ولهذا حيث أمر الله بالنكاح ـ كما في المطلقة ثلاثًا حتى تنكح زوجًا غيره، وكما في الإحصان - فلابد من الكمال بالعقد والدخول، وحيث نهى عنه ـ كما فى ذوات المحارم ـ فالنهى عن كل منهما على انفراده، وهذا مذهب مالك وأحمد المنصوص عنه أنه إذا حلف ليتزوجن لم يَبَرَّ إلا بالعُقْدَة والدخول، بخلاف ما إذا حلف لا يتزوج فإنه يحنث بالعقدة، وكذلك إذا حلف لا يفعل شيئاً حنث بفعل بعضه، بخلاف ما إذا حلف ليفعلنه، فإن دلالة الاسم على كل وبعض تختلف باختلاف النفى والإثبات. ولهذا لما أمر الله بالطهارة والصلاة والزكاة والحج كان الواجب الإتمام، كما قال تعالى: ولما نهى عن القتل والزنا والسرقة والشرب كان ناهياً عن أبعاض ذلك، بل وعن مقدماته ـ أيضاً، وإن كان الاسم لا يتناوله فى الإثبات؛ ولهذا فرق فى الأسماء النكرات بين النفى والإثبات، والأفعال كلها نكرات، وفرق بين الأمر والنهى بين التكرار وغيره، وقال صلى الله عليه وسلم:(إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه). وإنما اختلف فى المعارف المنفية على روايتين، كما فى قوله: لا تأخذ الدراهم، ولا تكلم الناس.
وَقَالَ شيخ الإِسلام أبو العباس تقى الدين ابن تيمية ـ قدس الله روحه ونور ضريحه: فى قوله تعالى: وروى سعيد بن جُبَيْر عن ابن عباس معناه،وقال:(قد فَعَلْتُ، قد فَعَلْتُ)، بدل (نعم). ولهذا قال كثير من السلف والخلف: إنها منسوخة بقوله: وفصل الخطاب: أن لفظ (النسخ) مجمل، فالسلف كانوا يستعملونه فيما يظن دلالة الآية عليه، من عموم أو إطلاق أو غير ذلك، كما قال من قال: إن قوله: وكذلك ينسخ اللّه ما يقع فى النفوس من فهم معنى، وإن كانت الآية لم تدل عليه لكنه محتمل وهذه الآية من هذا الباب؛ فإن قوله: ولا يقتضى أنه يغفر ويعذب بلا حكمة ولا عدل، كما قد يظنه من يظنه من الناس، حتى يجوزوا أنه يعذب على الأمر اليسير من السيئات مع كثرة الحسنات وعظمها، وأن الرجلين اللذين لهما حسنات وسيئات يغفر لأحدهما مع كثرة سيئاته وقلة حسناته، ويعاقب الآخر على السيئة الواحدة مع كثرة حسناته، ويجعل درجة ذاك فى الجنة فوق درجة الثانى. وهؤلاء يجوزون أن يعذب اللّه الناس بلا ذنب، وأن يكلفهم ما لا يطيقون ويعذبهم على تركه، والصحابة إنما هربوا وخافوا أن يكون الأمر من هذا الجنس، فقالوا: لا طاقة لنا بهذا؛ فإنه إن كلفنا ما لا نطيق عذبنا، فنسخ اللّه هذا الظن، وبين أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها، وبين بطلان قول هؤلاء الذين يقولون: إنه يكلف العبد ما لا يطيقه، ويعذبه عليه، وهذا القول لم يعرف عن أحد من السلف والأئمة، بل أقوالهم تناقض ذلك،حتى إن سفيان بن عيينة سئل عن قوله: قال ابن الأنبارى فى قوله: قلت: ليست هذه لغة العرب وحدهم، بل هذا مما اتفق عليه العقلاء. والاستطاعة فى الشرع هى ما لا يحصل معه للمكلف ضرر راجح، كاستطاعة الصيام والقيام، فمتى كان يزيد فى المرض أو يؤخر البرء لم يكن مستطيعاً؛ لأن فى ذلك مضرة راجحة، بخلاف هؤلاء فإنهم كانوا لا يستطيعون السمع لبغض الحق وثقله عليهم؛إما حسداً لقائله، وإما اتباعاً للهوى ورين الكفر والمعاصى على القلوب، وليس هذا عذراً، فلو لم يأمر العباد إلا بما يهوونه لفسدت السموات والأرض ومن فيهن. والمقصود أن السلف لم يكن فيهم من يقول: إن العبد لا يكون مستطيعاً إلا فى حال فعله، وأنه قبل الفعل لم يكن مستطيعاً، فهذا لم يأت الشرع به قط، ولا اللغة، ولا دل عليه عقل، بل العقل يدل على نقيضه، كما قد بسط فى غير هذا الموضع. والرب ـ تعالى ـ يعلم أن العبد لا يفعل الفعل مع أنه مستطيع له، والمعلوم أنه لا يفعله، ولا يريده لا أنه لا يقدر عليه، والعلم يطابق المعلوم، فاللّه يعلم ممن استطاع الحج والقيام والصيام أنه مستطيع، ويعلم أن هذا مستطيع يفعل مستطاعه، فالمعلوم هو عدم الفعل لعدم إرادة العبد، لا لعدم استطاعته، كالمقدورات له التى يعلم أنه لا يفعلها لعدم إرادته لها لا لعدم قدرته عليها، والعبد قادر على أن يفعل، وقد علم اللّه أنه لا يفعل مع القدرة؛ ولهذا يعذبه لأنه إنما أمره بما استطاع لا بما لا يستطيع، ومن لم يستطع لم يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه. وإذا قيل: فيلزم أن يكون قادراً على تغيير علم اللّه؛ لأن اللّه علم أنه لا يفعل، فإذا قدر على الفعل قدر على تغيير علم اللّه. قيل: هذه مغلطة؛ وذلك أن مجرد قدرته على الفعل لا يلزم فيها تغيير العلم، وإنما يظن من يظن تغيير العلم إذا وقع الفعل، ولو وقع الفعل لكان المعلوم وقوعه، لا عدم وقوعه، فيمتنع أن يحصل وقوع الفعل مع علم اللّه بعدم وقوعه، بل إن وقع كان اللّه قد علم أنه يقع، وإن لم يقع كان اللّه قد علم أنه لا يقع، ونحن لا نعرف علم اللّه إلا بما يظهر،و علم اللّه مطابق للواقع، فيمتنع أن يقع شىء يستلزم تغيير العلم، بل أى شىء وقع كان هو المعلوم، والعبد الذى لم يفعل لم يأت بشىء يغير العلم، بل هو قادر على فعل ما لم يقع، ولو وقع لكان الله قد علم أنه يقع لا أنه لا يقع. وإذا قيل: فمع عدم وقوعه يعلم الله أنه لا يقع، فلو قدر العبد على وقوعه قدر على تغيير العلم. قيل: ليس الأمر كذلك، بل العبد يقدر على وقوعه، وهو لم يوقعه، ولو أوقعه لم يكن المعلوم إلا وقوعه، فمقدور العبد إذا وقع لم يكن المعلوم إلا وقوعه، فإذا وقع كان اللّه عالماً أنه سيقع، وإذا لم يقع كان اللّه عالماً بأنه لا يقع البَتةَ، فإذا فرض وقوعه مع انتفاء لازم الوقوع صار محالا من جهة إثبات الملزوم بدون لازمه، وكل الأشياء بهذا الاعتبار هى محال. ومما يلزم هؤلاء ألاّ يبقى أحد قادراً على شىء إلا الرب؛ فإن الأمور نوعان: نوع علم اللّه أنه سيكون، ونوع علم الله أنه لا يكون. فالأول لابد من وقوعه، والثانى لا يقع البتة. فما علم الله أـنه سيقع يعلم أنـه يقع بمشيئته وقدرته، وما علم أنه لا يقع يعلم أنه لا يشاؤه، وهو ـ سبحانه ـ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وأما (المعتزلة) فعندهم أنه يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء، وأولئك (المجبرة) فى جانب، وهؤلاء فى جانب، وأهل السنة وَسَط. وما يفعله العباد باختيارهم يعلم ـ سبحانه ـ أنهم فعلوه بقدرتهم ومشيئتهم وما لم يفعلوه مع قدرتهم عليه يعلم أنهم لم يفعلوه لعدم إرادتهم له لا لعدم قدرتهم عليه، وهوـ سبحانه ـ الخالق للعباد ولقدرتهم وإرادتهم وأفعالهم، وكل ذلك مقدور للرب، وليس هذا مقدوراً بين قادرين، بل القادر المخلوق هو وقدرته ومقدوره مقدور للخالق مخلوق له. والمقصود هنا أن قوله تعالى: وقد علمنا أنه لا يغفر أن يشرك به، وأنه لا يعذب المؤمنين، وأنه يغفر لمن تاب، كذلك قوله: ودلت هذه الآية على أنه ـ سبحانه ـ يحاسب بما فى النفوس، وقد قال عمر: زِنُوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا. والمحاسبة تقتضى أن ذلك يحسب ويحصى. وأما المغفرة والعذاب،فقد دل الكتاب والسنة على أن من فى قلبه الكفر وبغض الرسول وبغض ما جاء به أنه كافر بالله ورسوله، وقد عفى الله لهذه الأمة ـ وهم المؤمنون حقاً، الذين لم يرتابوا ـ عما حَدَّثَتْ به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل، كما هو فى الصحيحين من حديث أبى هريرة وابن عباس، وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم:أن الذى يهم بالحسنة تكتب له، والذى يهم بالسيئة لا تكتب عليه حتى يعملها إذا كان مؤمناً من عادته عمل الحسنات وترك السيئات، فإن ترك السيئة للّه كتبت له حسنة، فإذا أبدى العبد ما فى نفسه من الشر بقول أو فعل صار من الأعمال التى يستحق عليها الذم والعقاب، وإن أخفى ذلك وكان ما أخفاه متضمناً لترك الإيمان بالله والرسول مثل الشك فيما جاء به الرسول أو بغضه كان معاقباً على ما أخفاه فى نفسه من ذلك؛ لأنه ترك الإيمان الذى لا نجاة ولا سعادة إلا به، وأما إن كان وسواسا والعبد يكرهه فهذا صريح الإيمان، كما هو مصرح به فى الصحيح. وهذه (الوسوسة) هى مما يهجم على القلب بغير اختيار الإنسان، فإذا كرهه العبد ونفاه كانت كراهته صريح الإيمان، وقد خاف من خاف من الصحابة من العقوبة على ذلك، فقال تعالى: و(الوُسْع) فعل بمعنى المفعول، أى: ما يسعه، لا يكلفها ما تضيق عنه فلا تسعه، وهو المقدور عليه المستطاع، وقال بعض الناس: إن (الوسع) اسم لما يسع الإنسان ولا يضيق عليه.وليس كذلك، بل ما يسع الإنسان هو مباح له، وما لم يسعه ليس مأموراً به فما يسعه قد يؤمر به وأما ما لا يسعه فهو المباح يقال: يسعنى أن أفعل كذا، ولا يسعنى أن أفعل كذا، والمباح هو الواسع، ومنه باحة الدار، فالمباح لك أن تفعله هو يسعك ولا تخرج عنه،ومنه يقال:رحم الله من وسعته السُّنَّة فلم يتعدها إلى البدعة،أى:فيما أمر اللّه به وما أباحه ما يكفى المؤمن المتبع فى دينه ودنياه لا يحتاج أن يخرج عنه إلى ما نهى عنه. وأما ما كلفت به فهو ما أمرت بفعله، وذلك يكون مما تسعه أنت لا مما يسعك هو، وقد يقال: لا يسعنى تركه، بل تركه محرم، وقد قال تعالى: أحدهما: أن يبدو ذلك فيبقى قولا وعملا يترتب عليه الذم والعقاب. والثانى: أن يغيروا الإيمان الذى فى قلوبهم بضده من الريب والشك والبغض، ويعزموا على ترك فعل ما أمر اللّه به ورسوله، فيستحقون العذاب هنا على ترك المأمور، وهناك على فعل المحظور. وكذلك ما فى النفس مما يناقض محبة الله والتوكل عليه والإخلاص له والشكر له يعاقب عليه؛ لأن هذه الأمور كلها واجبة. فإذا خلى القلب عنها واتصف بأضدادها استحق العذاب على ترك هذه الواجبات. وبهذا التفصيل تزول شبه كثيرة، ويحصل الجمع بين النصوص، فإنها كلها متفقة على ذلك، فالمنافقون الذين يظهرون خلاف ما يبطنون يعاقبون على أنهم لم تؤمن قلوبهم، بل أضمرت الكفر، قال تعالى: ولما كانت هذه الآية: وكلام السلف يوافق ما ذكرناه، قال ابن عباس: هذه الآية لم تنسخ، ولكن الله إذا جمع الخلائق يقول: إنى أخبركم بما أخفيتم فى أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتى، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم، وهو قوله: وقد روى عن ابن عباس: أنها نزلت فى كتمان الشهادة، وروى ذلك عن عكرمة والشعبى، وكتمان الشهادة من باب ترك الواجب، وذلك ككتمان العيب الذى يجب إظهاره، وكتمان العلم الذى يحب إظهاره، وعن مجاهد: أنه الشك واليقين، وهذا أيضاً من باب ترك الواجب؛ لأن اليقين واجب. وروى عن عائشة: ما أعلنت فإن الله يحاسبك به، وأما ما أخفيتَ فما عجلتْ لك به العقوبة فى الدنيا. وهذا قد يكون مما يعاقب فيه العبد بالغم، كما سئل سفيان بن عيينة عن غم لا يعرف سببه قال: هو ذنب هممت به فى سرك ولم تفعله، فجزيت هَمًّا به. فالذنوب لها عقوبات؛ السر بالسر، والعلانية بالعلانية، وروى عنها مرفوعا قالت: سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: قلت: هذا المرفوع هو ـ والله أعلم ـ بيان ما يعاقب به المؤمن فى الدنيا؛ وليس فيه أن كل ما أخفاه يعاقب به، بل فيه أنه إذا عوقب على ما أخفاه عوقب بمثل ذلك، وعلى هذا دلت الأحاديث الصحيحة. وقد روى الرويانى [أبو بكر محمد بن هارون الرويانى، من حفاظ الحديث، له مسند، وتصانيف فى الفقه. نسبته إلى رويان بنواحى طبرستان، وتوفى سنة 703هـ] فى مسنده من طريق الليث عن يزيد بن أبى حبيب، عن سعيد ابن سِنان، عن أنس، عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أراد اللّه بعبده الخير عَجَّل له العقوبة فى الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه العقوبة بذنبه حتى يوافيه بها يوم القيامة)، وقد قال تعالى: فهؤلاء كانوا فى ظنهم ـ ظن الجاهلية ـ ظنا ينافى اليقين بالقدر، وظنا ينافى بأن اللّه ينصر رسوله، فكان عقابهم على ترك اليقين ووجود الشك، وظن الجاهلية، ومثل هذا كثير. ومما يدخل فى ذلك نيات الأعمال، فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. والنية:هى مما يخفيه الإنسان فى نفسه، فإن كان قصده ابتغاء وجه ربه الأعلى استحق الثواب، وإن كان قصده رياء الناس استحق العقاب، كما قال تعالى: وفى حديث أبى هريرة الصحيح فى الثلاثة الذين أول من تُسَعَّر بهم النار: فى الذى تَعَلَّم وعَلَّم ليقال: عالم وقارئ، والذى قاتل ليقال: جرىء وشجاع، والذى تصدق ليقال: جواد وكريم. فهؤلاء إنما كان قصدهم مدح الناس لهم، وتعظيمهم لهم وطلب الجاه عندهم، لم يقصدوا بذلك وجه اللّه، وإن كانت صور أعمالهم صوراً حسنة، فهؤلاء إذا حوسبوا كانوا ممن يستحق العذاب، كما فى الحديث: (من طلب العلم ليُبَاهِى به العلماء، أو ليُمَارِى به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه فله من عمله النار)، وفى الحديث الآخر: (من طلب علما مما يبتغى به وجه اللّه لا يطلبه إلا ليصيب به عَرَضًا من الدنيا لم يُرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام). وفى الجملة، القلب هو الأصل، كما قال أبو هريرة: القلب ملك الأعضاء، والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث خبثت جنوده، وهذا كما فى حديث النعمان بن بشير ـ المتفق عليه ـ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:(إن فى الجسد مُضْغَةً إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهى القلب فصلاحه وفساده يستلزم صلاح الجسد وفساده، فيكون هذا مما أبداه لا مما أخفاه. وكل ما أوجبه اللّه على العباد لابد أن يجب على القلب فإنه الأصل، وإن وجب على غيره تبعا،فالعبد المأمور المنهى إنما يعلم بالأمر والنهى قلبه، وإنما يقصد الطاعة والامتثال القلب، والعلم بالمأمور والامتثال يكون قبل وجود الفعل المأمور به، كالصلاة، والزكاة، والصيام. وإذا كان العبد قد أعرض عن معرفة الأمر وقصد الامتثال، كان أول المعصية منه، بل كان هو العاصى وغيره تبع له فى ذلك؛ ولهذا قال فى حق الشقى: نوع هو عمل ظاهر على الجوارح، وهذا لا يكون إلا بعلم القلب وإرادته. فالقلب هو الأصل فيه، كالوضوء والاغتسال، وكأفعال الصلاة؛ من القيام، والركوع، والسجود، وأفعال الحج؛ من الوقوف، والطواف،وإن كانت أقوالا فالقلب أخص بها، فلابد أن يعلم القلب وجود ما يقوله، أو بما يقول ويقصده. ولهذا كانت الأقوال فى الشرع لا تعتبر إلا من عاقل يعلم ما يقول ويقصده، فأما المجنون والطفل الذى لا يميز فأقواله كلها لغو فى الشرع، لا يصح منه إيمان ولا كفر، ولا عقد من العقود،ولاشىء من الأقوال باتفاق المسلمين، وكذلك النائم إذا تكلم فى منامه، فأقواله كلها لغو، سواء تكلم المجنون والنائم بطلاق أو كفر أوغيره، وهذا بخلاف الطفل؛ فإن المجنون والنائم إذا أتلف مالا ضمنه، ولو قتل نفساً وجبت ديتها كما تجب دية الخطأ. وتنازع العلماء فى السكران،مع اتفاقهم أنه لا تصح صلاته؛لقوله صلى الله عليه وسلم: (مروهم بالصلاة لسبع،واضربوهم عليها لعشر،وفَرِّقوا بينهم فى المضاجع) وهو معروف فى السنن. وتنازعوا فى عقود السكران كطلاقه، و فى أفعاله المحرمة، كالقتل والزنا، هل يجرى مجرى العاقل، أو مجرى المجنون، أو يفرق بين أقواله وأفعاله وبين بعض ذلك وبعض؟ على عدة أقوال معروفة. والذى تدل عليه النصوص والأصول وأقوال الصحابة: أن أقواله هدر ـ كالمجنون ـ لا يقع بها طلاق ولا غيره؛ فإن الله ـ تعالى ـ قد قال: واحتجوا بقوله تعالى: وأيضا، فإذا كان السكران لا يصح طلاقه والصبى المميز تصح صلاته، ثم الصبى لا يقع طلاقه، فالسكران أولى، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم لماعز لما اعترف بالحد: (أبك جنون؟) قال: لا، ثم أمر باستنكاهه لئلا يكون سكران، فدل على أن إقرار السكران باطل، وقضية ماعز متأخرة بعد تحريم الخمر؛ فإن الخمر حرمت سنة ثلاث بعد أُحُد باتفاق الناس، وقد ثبت عن عثمان وغيره من الصحابة ـ كعبد اللّه بن عباس ـ أن طلاق السكران لا يقع، ولم يثبت عن صحابى خلافه. والذين أوقعوا طلاقه لم يذكروا إلا مأخذاً ضعيفا، وعمدتهم أنه عاص بإزالة عقله، وهذا صحيح يوجب عقوبته على المعصية التى هى الشرب فيحد على ذلك، وأما الطلاق فلا يعاقب به مسلم على المعصية، ولو كان كذلك لكان كل من شرب الخمر أو سكر طلقت امرأته، وإنما قال من قال: إذا تكلم به طلقت، فهم اعتبروا كلامه لا معصيته، ثم إنه فى حال سكره قد يعتق، والعتق قربة، فإن صححوا عتقه بطل الفرق، وإن ألغوه فإلغاء الطلاق أولى؛ فإن الله يحب العتق ولا يحب الطلاق. ثم من علل ذلك بالمعصية، لزمه طرد ذلك فيمن زال عقله بغير مسكر كالبنج، وهو قول من يسوى بين البنج والسكران من أصحاب الشافعى وموافقيه كأبى الخطاب، والأكثرون على الفرق، وهو منصوص أحمد وأبى حنيفة وغيرهما؛ لأن الخمر تشتهيها النفس وفيها الحد، بخلاف البنج فإنه لا حد فيه، بل فيه التعزير؛ لأنه لا يشتهى كالميتة، والدم ولحم الخنزير فيها التعزير، وعامة العلماء على أنه لا حد فيها إلا قولاً نقل عن الحسن، فهذا فيمن زال عقله. وأما إذا كان يعلم ما يقول، فإن كان مختاراً قاصداً لما يقوله، فهذا هو الذى يعتبر قوله، وإن كان مكرها، فإن أكره على ذلك بغير حق فهذا عند جمهور العلماء أقواله كلها لَغْو، مثل كفره، وإيمانه، وطلاقه وغيره، وهذا مذهب مالك والشافعى وأحمد وغيرهم. وأبو حنيفة وطائفة يفرقون بين ما يقبل الفسخ وما لا يقبله، قالوا:فما يقبل الفسخ لا يلزم من المكره كالبيع، بل يقف على إجازته له، وما لا يقبل الفسخ كالنكاح والطلاق واليمين فإنه يلزم من المكره. والجمهور ينازعون فى هذا الفرق؛ فى ثبوت الوصف، وفى تعلق الحكم به؛ فإنهم يقولون: النكاح ونحوه يقبل الفسخ، وكذلك العتق يقبل الفسخ عند الشافعى وأحد القولين فى مذهب أحمد، حتى إن المكاتب قد يحكمون بعتقه ثم يفسخون العتق ويعيدونه عبداً، والأيمان المنعقدة تقبل التحلة، كما قال تعالى: والمقصود هنا أن القلب هو الأصل فى جميع الأفعال والأقوال، فما أمر اللّه به من الأفعال الظاهرة فلابد فيه من معرفة القلب وقصده وما أمر به من الأقوال وكل ما تقدم، والمنهى عنه من الأقوال والأفعال إنما يعاقب عليه إذا كان بقصد القلب، وأما ثبوت بعض الأحكام، كضمان النفوس والأموال إذا أتلفها مجنون أو نائم أو مخطئ أو ناس، فهذا من باب العدل فى حقوق العباد، ليس هو من باب العقوبة. فالمأمور به ـ كما ذكرنا ـ نوعان: نوع ظاهر على الجوارح، ونوع باطن فى القلب. النوع الثانى: ما يكون باطنا فى القلب كالإخلاص وحب اللّه ورسوله والتوكل عليه والخوف منه، وكنفس إيمان القلب وتصديقه بما أخبر به الرسول، فهذا النوع تعلقه بالقلب ظاهر فإنه محله، وهذا النوع هو أصل النوع الأول، وهو أبلغ فى الخير والشر من الأول، فنفس إيمان القلب وحبه وتعظيمه للّه وخوفه ورجائه والتوكل عليه وإخلاص الدين له لا يتم شىء من المأمور به ظاهراً إلا بها، وإلا فلو عمل أعمالا ظاهرة بدون هذه كان منافقاً، وهى فى أنفسها توجب لصاحبها أعمالا ظاهرة توافقها، وهى أشرف من فروعها، كما قال تعالى: وكذلك تكذيب الرسول بالقلب وبغضه وحسده والاستكبار عن متابعته،أعظم إثما من أعمال ظاهرة خالية عن هذا كالقتل والزنا والشرب والسرقة، وما كان كفراً من الأعمال الظاهرة؛ كالسجود للأوثان، وسب الرسول ونحو ذلك، فإنما ذلك لكونه مستلزما لكفر الباطن، وإلا فلو قدر أنه سجد قُدّام وَثَنٍ ولم يقصد بقلبه السجود له بل قصد السجود للّّه بقلبه لم يكن ذلك كفراً، وقد يباح ذلك إذا كان بين مشركين يخافهم على نفسه فيوافقهم فى الفعل الظاهر ويقصد بقلبه السجود للّه، كما ذكر أن بعض علماء المسلمين وعلماء أهل الكتاب فعل نحو ذلك مع قوم من المشركين، حتى دعاهم إلى الإسلام فأسلموا على يديه، ولم يظهر منافرتهم فى أول الأمر. وهنا أصول تنازع الناس فيها، منها أن القلب هل يقوم به تصديق أو تكذيب ولا يظهر قط منه شىء على اللسان والجوارح، وإنما يظهر من غير خوف؟ فالذى عليه السلف والأئمة وجمهور الناس: أنه لا بد من ظهور موجب ذلك على الجوارح، فمن قال: إنه يصدق الرسول ويحبه ويعظمه بقلبه ولم يتكلم قط بالإسلام ولا فعل شيئاً من واجباته بلا خوف، فهذا لا يكون مؤمناً فى الباطن، وإنما هو كافر. وزعم جَهْم ومن وافقه أنه يكون مؤمناً فى الباطن...[بياض الأصل] وأن مجرد معرفة القلب وتصديقه يكون إيماناً يوجب الثواب يوم القيامة بلا قول ولا عمل ظاهر، وهذا باطل شرعا وعقلا ـ كما قد بسط فى غير هذا الموضع .وقد كَفَّر السلف ـ كوَكِيع وأحمد وغيرهما ـ من يقول بهذا القول، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: (إن فى الجسد مُضْغَةً إذا صلُحَتْ صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب)، فبين أن صلاح القلب مستلزم لصلاح الجسد . فإذا كان الجسد غير صالح دل على أن القلب غير صالح، والقلب المؤمن صالح، فعلم أن من يتكلم بالإيمان ولا يعمل به لا يكون قلبه مؤمناً، حتى إن المكره إذا كان فى إظهـار الإيمان فلابـد أن يتكلم مع نفسه وفى السر مـع مـن يأمـن إليه، ولابـد أن يظهر على صَفَحات وجهه وفَلَتات لسانه، كما قال عثمان. وأما إذا لم يظهر أثر ذلك ـ لا بقوله ولا بفعله قط ـ فإنه يدل على أنه ليس فى القلب إيمان. وذلك أن الجسد تابع للقلب،فلا يستقر شىء فى القلب إلا ظهر موجبه ومقتضاه على البدن ولو بوجه من الوجوه، وإن لم يظهر كل موجبه لمعارض فالمقتضى لظهور موجبه قائم؛ والمعارض لا يكون لازما للإنسان لزوم القلب له، وإنما يكون فى بعض الأحوال متعذراً إذا كتم ما فى قلبه كمؤمن آل فرعون، مع أنه قد دعى إلى الايمان دعاء ظهر به من إيمان قلبه ما لا يظهر من إيمان من أعلن إيمانه بين موافقيه، وهذا فى معرفة القلب وتصديقه. ومنها قصد القلب وعزمه إذا قصد الفعل وعزم عليه مع قدرته على ما قصده، هل يمكن ألا يوجد شىء مما قصده وعزم عليه؟ فيه قولان، أصحهما أنه إذا حصل القصد الجازم مع القدرة وجب وجود المقدور، وحيث لم يفعل العبد مقدوره دل على أنه ليس هناك قصد جازم،وقد يحصل قصد جازم مع العجز عن المقدور لكن يحصل معه مقدمات المقدور، وقيل: بل قد يمكن حصول العزم التام بدون أمر ظاهر. وهذا نظير قول من قال ذلك فى المعرفة والتصديق، وهما من أقوال أتباع جَهْم الذين نصروا قوله فى الإيمان، كالقاضى أبى بكر وأمثاله، فإنهم نصروا قوله، وخالفوا السلف والأئمة وعامة طوائف المسلمين. وبهذا ينفصل النزاع فى مؤاخذة العبد بالْهَمَّة، فمن الناس من قال: يؤاخذ بها إذا كانت عَزْما، ومنهم من قال: لا يؤاخذ بها. والتحقيق: أن الهمة إذا صارت عزما فلابد أن يقترن بها قول أو فعل؛ فإن الإرادة مع القدرة تستلزم وجود المقدور. والذين قالوا: يؤاخذ بها احتجوا بقوله: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار) الحديث، وهذا لا حجة فيه؛ فإنه ذكر ذلك فى رجلين اقتتلا، كل منهما يريد قتل الآخر، وهذا ليس عزماً مجرداً، بل هو عزم مع فعل المقدور، لكنه عاجز عن إتمام مراده، وهذا يؤاخذ باتفاق المسلمين، فمن اجتهد على شرب الخمر وسعى فى ذلك بقوله وعمله ثم عجز فإنه آثم باتفاق المسلمين، وهو كالشارب وإن لم يقع منه شرب، وكذلك من اجتهد على الزنا والسرقة ونحو ذلك بقوله وعمله ثم عجز فهو آثم كالفاعل، ومثل ذلك فى قتل النفس وغيره، كمـا جعل الداعى إلى الخير له مثل أجر المدعو ووزره لأنه أراد فعل المدعو، وفعل ما يقدر عليه، فالإرادة الجازمة، مع فعل المقدور من ذلك، فيحصل له مثل أجر الفاعل ووزره، وقد قال تعالى: وفصل الخطاب فى الآية: أن {أٍوًلٌي بضَّرّر} نوعان: نوع لهم عزم تام على الجهاد ولو تمكنوا لما قعدوا ولا تخلفوا، وإنما أقعدهم العذر، فهم كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: (إنبالمدينة رجالا ما سِرْتُم مَسِيٍرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم) قالوا: وهم بالمدينة؟! قال: (وهم بالمدينة، حَبَسَهُمُ العُذْرُ) وهم ـ أيضاً ـ كما قال فى حديث أبى كَبْشَة الأنمارى: (هما فى الأجر سواء)، وكما فى حديث أبى موسى: (إذا مرض العبد أو سافر كُتِب له من العمل ما كان يعمل صحيحاً مقيما)، فأثبت له مثل ذلك العمل؛ لأن عزمه تام، وإنما منعه العذر. والنوع الثانى من وأيضاً، فالقاعدون إذا كانوا من غير أولى الضرر، والجهاد ليس بفرض عين فقد حصلت الكفاية بغيرهم؛ فإنه لا حرج عليهم فى القعود، بل هم موعودون بالحسنى كأولى الضرر، وهذا مثل قوله: فإن قيل: قد قال فى الأولى فى فضلهم:{دَرَجَةً} ثم قال فى فضلهم: فقوله: وقد يقال: إن {دَرَجَةً} منصوب على التمييز، كما قال: {أَعْظَمُ دَرَجَةً} أى فضل درجتهم على درجتهم أفضل، كما يقال: فضل هذا على هذا منزلا ومقاماً، وقد يراد بالدرجة جنس الدرج، وهى المنزلة والمستقر،ولا يراد به درجة واحدة من العدد، وقوله: وهكذا حال المقتتلين من المسلمين فى الفتن الواقعة بينهم، فلا تكون عاقبتهما إلا عاقبة سوء،الغالب والمغلوب، فإنه لم يحصل له دنيا ولا آخرة، كما قال الشعبى: أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أشقياء، وأما الغالب فإنه يحصل له حظ عاجل ثم ينتقم منه فى الآخرة، وقد يعجل الله له الانتقام فى الدنيا، كما جرى لعامة الغالبين فى الفتن. فإنهم أصيبوا فى الدنيا، كالغالبين فى الحرة، وفتنة أبى مسلم الخراسانى ونحو ذلك. وأما من قال: إنه لا يؤاخذ بالعزم القلبى، فاحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم:(إن الله تجاوز لأمتى عما حَدَّثَتْ به أنفسها)، وهذا ليس فيه أنه عافٍ لهم عن العزم، بل فيه أنه عَفَى عن حديث النَّفْس إلى أن يتكلم أو يعمل، فدل على أنه ما لم يتكلم أو يعمل لا يؤاخذ، ولكن ظن من ظن أن ذلك عزم وليس كذلك، بل ما لم يتكلم أو يعمل لا يكون عزماً؛ فإن العزم لابد أن يقترن به المقدور وإن لم يصل العازم إلى المقصود، فالذى يعزم على القتل أو الزنا أو نحوه عزما جازما لابد أن يتحرك ولو برأسه، أو يمشى، أو يأخذ آلة، أو يتكلم كلمة، أو يقول أو يفعل شيـئا، فهذا كله ما يؤاخذ به كزنا العين واللسان والرِّجل فإن هذا يؤاخذ به، وهو من مقدمات الزنا التام بالفرج، وإنما وقع العفو عما ما لم يبرز خارجا بقول أو فعل ولم يقترن به أمر ظاهر قط، فهذا يعفى عنه لمن قام بما يجب على القلب من فعل المأمور به، سواء كان المأمور به فى القلب وموجبه فى الجسد، أوكان المأمور به ظاهراً فى الجسد وفى القلب معرفته وقصده، فهؤلاء إذا حدثوا أنفسهم بشىء كان عفواً مثل هَمّ ثابت بلا فعل، ومثل الوسواس الذى يكرهونه وهم يثابون على كراهته، وعلى ترك ما هموا به وعزموا عليه للّه ـ تعالى ـ وخوفاً منه.
|